نوتردام الأطلس.. رمز الأخوة والعمل الجماعي

معالم وآثار من عمق المغرب

يزخر المغرب بتراث غني يعكس تعاقب الحضارات على أرضه، من شماله إلى جنوبه، ومن شرقه إلى غربه. مآثره المتنوعة ومعالمه الفريدة تحكي قصص أمجاد وتاريخ حافل شكل ملامح مغرب اليوم.
في هذه الزاوية الرمضانية، تأخذكم بيان اليوم في رحلة عبر الزمن، نستكشف فيها معالم بارزة ومآثر متميزة، ليس فقط بجمالها وتفردها، بل أيضًا بما تحمله من دلالات تاريخية وثقافية. في كل حلقة، نسلط الضوء على جزء من الموروث المغربي الأصيل، بين عمران يعكس عبقرية البناء، وتقاليد تصوغ هوية الوطن، وصفحات من التاريخ صنعت أمجاد هذا البلد العريق.

تعد مدينة ميدلت واحدة من المدن المغربية التي تتميز بطبيعتها الخلابة وتاريخها العريق، فضلاً عن كونها مركزًا هامًا للحرف التقليدية التي تعكس روح المجتمع المحلي، وروح التعاون والانفتاح.
ومن أبرز معالم المدينة النابضة في قلب الأطلس والتي تزخر بمؤهلات طبيعية هائلة دير نوتردام الأطلس الذي يحمل في طياته قصة طويلة من الأخوة، والإيمان، والعمل المجتمعي.
وتاريخ هذا المكان يرتبط ارتباطًا وثيقًا بالحياة الاجتماعية والدينية التي استمرت لعقود، بداية من تأسيس قصبة مريم على يد الراهبات الفرنسيسكانيات في عام 1926، مرورًا بتطوير الحرف اليدوية المحلية، وصولاً إلى دور الدير في المحافظة على التراث الحرفي وتقديم الدعم للمجتمع المحلي.
ومن قصبة مريم إلى نوتردام الأطلس في تاريخ طويل من التضحية والإبداع، حيث تعود قصة الدير إلى 1926، حين تأسست قصبة مريم على يد الراهبات الفرنسيسكانيات، حيث كان لها دور هام في حياة المجتمع المحلي بميدلت.
كانت القصبة، التي تميزت بتصميمها المعماري المستوحى من الطابع التقليدي للمنطقة، لا تقتصر فقط على النشاط الديني، بل كانت تقدم خدمات طبية واجتماعية للسكان المحليين. فقد عملت الراهبات على تقديم الدعم للعائلات الفقيرة، وكان لهن دور أساسي في تحسين حياة سكان المنطقة، سواء من خلال تقديم الرعاية الصحية أو عبر مشاريع اجتماعية تهدف إلى مساعدة المرأة في المجتمع.
واحدة من أبرز المبادرات التي بدأت داخل قصبة مريم كانت مشروع تعليم النساء الحرف التقليدية، وعلى رأسها فن الحياكة. ومن خلال هذا المشروع، كانت الراهبات تهدفن إلى تمكين النساء وتعليمهن كيفية حياكة الزرابي (السجاد) والخياطة، مما ساعد في تمهيد الطريق لهن لتحويل هذه الهوايات إلى مهن تدر عليهن دخلًا ثابتًا.
وقد اعتبرت هذه المبادرة خطوة هامة نحو تمكين المرأة في المجتمع المحلي، حيث أصبح العديد من النساء في ميدلت يعتمدن على هذه الحرف كمصدر رئيسي للعيش.لكن بعد وفاة مؤسستها، أغلقت القصبة وتم تحويلها إلى دير نوتردام الأطلس.
وبدوره، لم يقتصر الدير على الحفاظ على المبنى والمعمار التقليدي فحسب، بل أصبح أيضًا مركزًا للحفاظ على التراث المحلي وتشجيع الحرف اليدوية. كما أن الدير يحتوي على متحف مميز يسلط الضوء على حياة الرهبان المسيحيين في المغرب، مما يعكس العلاقة بين الأديان والروح الإنسانية التي سادت المنطقة.
وما تزال أجراس الدير تحتفظ إلى اليوم بعديد من القصص الإنسانية، منها القصة الشهيرة التي تحفظ ذكرى مقتل رهبان تيبحيرين في الجزائر، إذ عاش في نوتردام الأطلس آخر الناجين من المجزرة، والذي يسعى إلى أن يكون نقطة التقاء بين الأديان.
وتعود تفاصيل هذه القصة إلى عام 1996، بعدما خُطف سبعة رهبان من رفاق شوماخر في دير نوتردام الأطلس ببلدة تيبحيرين في الجزائر، قبل أن يتم العثور عليهم بعد شهرين قتلى وقد قطعت رؤوسهم، وذلك في عز سنوات العشرية السوداء التي شهدتها الجزائر في تسعينيات القرن الماضي.
هذا الحادث المؤسف الذي لم تتضح كليا ملابساته، رجحت المصادر أن مسؤوليته تقع على عاتق جماعة دينية مسلحة كانت قد أعلنت مسؤوليتها عن المذبحة، لكن مصادر أخرى ذكرت أن الشكوك لا تزال قائمة حول احتمال تورط الاستخبارات العسكرية الجزائرية فيها.
وعلى غثر هذا الحادث المؤلم، رحل الناجيان الوحيدان إلى دير في مدينة فاس، قبل أن ينتقلا من جديد إلى دير ميدلت الذي نُقل إليه دير تيبحيرين وصار يُسمّى بـ”نوتردام الأطلس”.
إن دير نوتردام الأطلس يمثل أكثر من مجرد مكان ديني، فهو رمز للأخوة والتعاون بين الثقافات المختلفة. من خلال مشروعاته المجتمعية، بما في ذلك دعم الحرف اليدوية، استطاع الدير أن يعزز الروابط بين سكان المنطقة ويشجع على الحفاظ على التراث الثقافي.
إن قصة نوتردام الأطلس تمثل قصة تعاون، إيمان، وفن يعكس الحياة المتجددة لهذه المنطقة المغربية العريقة، ويعكس مدى الانفتاح وتقبل الآخر لدى المغاربة، فالتسامح والأخوة دائما ما ميزوا المغاربة عموما وسكان الأطلس بشكل خاص.

  إعداد: محمد توفيق أمزيان

Top