تميز خطاب جلالة الملك في افتتاح الدورة البرلمانية بكونه لم يكن خطاب وضوح وصراحة وتشخيص دقيق للواقع فحسب، وإنما امتلك مضمونا تنفيذيا عمليا تجاوز التوجيهات المألوفة، ليقدم خارطة طريق برنامجية للمديين القريب والمتوسط.
الخطاب الملكي، الذي كان مشروطا ومرتبطا بالظرفية الصحية والمجتمعية الصعبة، عكس مقاربة إرادية واضحة تروم تحويل أزمة “كوفيد – 19” إلى فرصة للتطلع إلى كسب رهانات مختلفة.
أول معطى مركزي كان لافتا في الخطاب الموجه إلى البرلمانيين، هو إشارته إلى أن هذه الدورة تندرج ضمن آخر سنة تشريعية في الولاية الحالية، وأيضا دعوته البرلمانيين والنخب السياسية إلى تكثيف التعبئة والارتقاء بأدوارهم، وفِي كل هذا يتضح انتصار جلالة الملك للخيار الديمقراطي ودولة المؤسسات واحترام إرادة الناخبين، وهذه رسالة واضحة وقوية تلخص التزاما ملكيا راسخا بالخيار الديمقراطي.
من جهة ثانية، استعرض جلالة الملك صعوبات واقعنا الاقتصادي، وأعلن عن إجراءات ومشاريع وبرامج ملموسة وعملية تروم إنعاش الحركية الاقتصادية والاستثمارية، وتجاوز تداعيات الأزمة الصحية، لكن الخطاب ربط هذه الدينامية الاقتصادية بضرورة ترسيخ عقد اجتماعي وتحقيق الاستقرار المجتمعي، وبالتالي تحسين الأوضاع العامة للمغاربة، وهذا المعطى كان أيضا واضحا في الخطاب الملكي، من خلال مقاربة التحديين الاقتصادي والاجتماعي بشكل جدلي، وفِي ذلك رسالة إلى الحكومة ومؤسسات الدولة، وأيضا إلى مقاولات القطاع الخصوصي، من أجل تعبئة كل الجهود، وتقوية التعبئة الوطنية لكسب هذا التحدي الإستراتيجي والجوهري، وإبراز روح الوطنية والمواطنة في هذه الظروف الصعبة والدقيقة.
هذا المعطى نفسه يمثل التزاما ملكيا آخر، وإعلانا واضحا عن مجهود استثماري ومالي كبير للدولة، ورسالة بضرورة توفير موارد تمويلية أخرى، واعتماد مقاربات تقوم على الابتكار والإبداع بعيدا عن بيروقراطية الإدارة وجمود عقلياتها التقليدية.
إن هذه المقاربة الملكية تقتضي اليوم التقائية البرامج والسياسات، وتحسين منظومات التدبير والتتبع والتنفيذ، وتمتين الحكامة الجيدة والمحاسبة، وحسن اختيار الأطقم والموارد والكفاءات البشرية، أي أن كامل البرنامج الملكي، خصوصا في مداه المتوسط، يفرض اليوم وجود مؤسسات سياسية وتنفيذية وتدبيرية تحمل مضامينه وآفاقه وتطلعاته.
وعندما نستحضر، في هذا السياق، انتصار جلالة الملك للخيار الديمقراطي واحترام إرادة الناخبين، ودعوته للابتكار والإبداع وتغيير المقاربات وأساليب العمل والعقليات، فكل ذلك يفيد أن البلاد في حاجة، فعلا، إلى حقل سياسي قوي وممتلك للمصداقية والكفاءة والروح الوطنية، وذلك من أجل قيادة هذا التطلع الملكي لتحقيق التنمية وتعزيز الاستقرار الاجتماعي وتحسين أوضاع الناس.
البلاد في حاجة إلى تطوير المنظومة السياسية والحزبية والمؤسساتية والانتخابية الوطنية، وتمتين التعبئة الوطنية، وإلى وجود أحزاب قوية مستقلة ذات مصداقية، أي إلى فاعلين سياسيين يحملون، بدورهم، التزامات واضحة، في مقابل ما أعلن عنه خطاب الجمعة من التزامات ملكية شجاعة.
لقد كشف خطاب جلالة الملك عن مقاربة استراتيجية في التعاطي مع تداعيات الجائحة الوبائية، والسعي إلى تحويل هذه الأزمة إلى فرص للبناء، والعمل لإنعاش الاقتصاد وتقوية الاستقرار وتطوير أوضاع المواطنات والمواطنين وتحقيق العدالة الاجتماعية والمجالية، وهذا التحدي الكبير يفرض، بداهة، تطوير الحقل السياسي وتمتين مقومات البنيان الديمقراطي والمؤسساتي ببلادنا.
من المؤكد أن البرامج والإجراءات التي أعلن عنها جلالة الملك يمتد سياقها التنفيذي في المدى المتوسط، أي إلى ما بعد انتخابات السنة القادمة، ولكن، هذا لا يمنع الحكومة والأغلبية الحاليتين من تقوية تعبئتهما آنيًا، وتعزيز الانسجام والوحدة، والارتقاء بأدائهما العام لمواجهة المعضلات القائمة هنا والآن، وأن تنخرط الحكومة في محددات المقاربة الملكية المعلنة، وتشرع، من الآن، في التأسيس للتغيير المطلوب.
لا يمكن النجاح في الرهان الاقتصادي من دون حرص على الاستقرار في المجتمع وتحقيق العدالة الاجتماعية، ولا يمكن كسب الرهانين من دون فعل سياسي حقيقي ذي مصداقية، وبلا تعبئة شعبنا والتواصل معه وانخراطه.
خطاب الجمعة أمام البرلمان يجب إذن أن يستوعب كل الفاعلين رسائله والتزاماته، وأن ينخرط الجميع، من الآن، في أفقه والتزاماته.
<محتات الرقاص