التعليم الرقمي في زمن كورونا

لا جدال في أن المتتبع للوضعية الوبائية في العالم يدرك صعوبة المرحلة التعليمية التي يمر منها العالم عامة والمغرب خاصة في العصر الراهن، صعوبة تستمد أوصالها الجينية من عدم توفر عدة ديداكتيكية ناجعة ،وضعف الإمكانيات الاقتصادية المرصودة لإعادة هيكلة البرامج التعليمية وتغييرالمناهج الدراسية بما يتلاءم وتحديات المرحلة الصحية والتاريخية التي يمر منها العالم، وتأهيل الموارد البشرية التي تعد قطب الرحى في عملية التدريس على المستويين اللوجيستسكي والتربوي. لذا يتوجب علينا بداية الوقوف عند نقطتين أساسيتين للتفصيل في هذا الموضوع.
أولاهما: خصوصيات المرحلة، التي تتميز بتحول نوعي وكمي إلى الرقمي في جميع المجالات والميادين، حيث أضحت هوية المواطن ثقافيا واجتماعيا واقتصاديا تتحدد بما هو رقمي،إذ فرض الحجر المنزلي على سكان العالم الغوص في تحديات جديدة جعلته المواطن يطلب احتياجاته الضرورية من المتاجرالإلكترونية عبر تطبيقات تسمح له بالحصول على مشترياته وتحصيل جميع متطلباته دون مغادرة بيته، فكان أن ازدهرت خدمات التوصيل بالمقابل التي كان الهدف منها الإبقاء على أكبر عدد من السكان بالبيت ولزومهم له.
كما عرفت التجارة الإلكترونية طفرة نوعية إذ ارتفعت نسبة البيع والشراء في المواقع الإلكترونية التجارية (أمازون، وولمارت) التي استعاض بها المواطن عن زيارة المتاجر،وهي وإن حرمت الزبون من لذة التجوال ومعاينة المنتوج مباشرة إلا أنها وفرت له حلولا ناجعة لتوفير متطلباته المعيشية زمن الوباء وجنبته خطر نقل العدوى إلى الآخرين إن كان مصابا.
في سياق آخر تحولت العملة النقدية إلى رقم معاملات تجارية وهذا أتاح له إمكانية تسهيلات أداء جميع الفواتير من ماء وكهرباء وهاتف وتذاكر للقطار والطائرة وغيرها عبر الهاتف عن طريق تنزيل تطبيقات بنكية تسهل عملية الأداء وتحصل نظير ذلك ربحا ماديا تختلف نسبته بحسب طبيعة الخدمة المقدمة. هذا الأمر قلل من إمكانية تداول العملات الورقية والنقدية واستبدلها بالعملة الرقمية التي لا تعدو أن تكون مجرد أرقام في الحساب البنكي للمواطن.
اجتماعيا: منحت مواقع التواصل الاجتماعي على اختلاف أنواعها(تويتر،فيسبوك،واتساب، انستاغرام….)إمكانيات التواصل بين الأصدقاء وأفراد العائلة، بل امتدت فاعليتها إلى إمكانية خلق مقاهي افتراضية بين المتواصلين عن طريق تحديد زمن اللقاء وموضوعه الذي وإن اختلف مكانه فإن أشخاصه
وموضوعه المطروح للنقاش ظل حاضرا في ظل تباعد الأجساد، وحضور الأفكار التي يطرحها الحديث في عوالم التواصل الافتراضية أو البديلة ونفضل هنا مصطلح بديلة لأنها أصبحت واقعا فالافتراضي استبدل مجريات الحياة الواقعية فأصبح واقعيا واتخذ مكانه بوصفه بديلا في المرحلة الراهنة.
ثقافيا: اتجه العالم زمن الوباء إلى تنظيم معارض افتراضية، ومقاهي أدبية افتراضية، وندوات افتراضية عبر تطبيقات تعليمية من قبيل( ميكروسوفت تيمز، وزووم…..)، كماانتشرت بعض تطبيقات المكتبات الافتراضية التي حاولت سد شهية القراء والباحثين أمام صعوبة فتح أمكنة الفضاءات الثقافية خوفا من تفشي الفيروس.
تربويا: قذف الوضع الصحي الراهن المنظومة التعليمية بالعالم إلى مجال الرقمنة دون سابق إنذار، وهكذا ألزم كل من المدرس والتلميذ باحترام إجراءات التباعد الجسدي، فكان أن طرح كبديل عن التعليم الصفي الحضوري، وهو ما أحدث حدث/الصدمة(le choc) بالنسبة للهيئة التعليمية، لاسيما وأن الوضع الصحي وأعداد الإصابات المتزايدة أربك جميع الحسابات ووضع الاستراتيجيات الدولية في مأزق حقيقي
ودخول معظم الدول بالعالم في حالة حجر صحي إلزامي فرض على السكان بقوة القانون البقاء في المنازل، الشيء الذي ألزم الوزارات الوصية بالاعتماد في تلقين المعارف على هذا النوع الجديد من التعليم الذي لم تتعود الشغيلة التعليمية على الاشتغال بواسطته ولا أتقنت ميكانيزماته الأساسية، إذ ما تزال الطريقة التقليدية الأفقية في التلقين حاضرة بقوة، فلم يسبق لنا خلق جسر تواصل مع الفئات التعليمية داخل عوالم الأنترنيت الإفتراضية، وها هو المدرس يفاجأ بأقسام افتراضية يجهل تماما طريقة إيصال المعارف إليها عبر المنصات التعليمية.
خلق هذا الوضع الحتمي ارتباكا في صفوف التلاميذ والأسر التي تعذر على غالبيتها العظمى مواكبة تعلمات أبنائها خاصة منها التي تشكو ضعفا في مستواها التعليمي أو أمية كاملة، في حين عانت الأسر المتعلمة والمثقفة من انعدام إمكانية إيجاد الفترات الزمنية الملائمة لمواكبة هذا النوع من التعليم، خاصة وأنها تعمل في فترات بث البرامج المدرسية و ربط أبنائها بالمنصات التعليمية.
إضافة إلى ذلك أحدث ضعف صبيب شبكة الأنترنيت مشكلا رئيسيا، فهي لم تعتد على الضغط الهائل الذي خلفه الإقبال على الإتصال طيلة النهار، وبات من الصعب الحصول على ربط جيد يحصل من خلاله التلميذ معارفه اليومية. هذا مع العلم التام بالفوارق الاجتماعية والسوسيوثقافية ومتغيرات التوزيع الجغرافي للمؤسسات التعليمية بالمغرب،وكذا مجالات التوزيع السكاني للتلاميذ الذين تختلف أوضاعهم السوسيواقتصادية ما بين البوادي والمدن، لذلك فسكان المغرب العميق سيبقون في بعد تام عن سيرورة التعليم عن بعد في ظل ضعف الموارد المادية والبنيات التحتية، الأمر الذي زاد من صعوبة تنزيل معطيات النظام الرقمي الجديد في التعليم، ونقل بنود المذكرات والمخططات الوزارية الرامية في بعديها التربوي التعليمي والصحي الإحترازي إلى تطبيقات عملية ناجعة على أرض الواقع.
ويبقى السؤال المركزي في دائرة المنهاج الدراسي حاضرا بقوة والذي يتلخص جوهره فيما يلي: ماذا تقدم المؤسسة التعليمية للتلميذ المغربي هل يحصل منها معارف ومهارات حياتية أم أنه يكتسب منها قيما (des valeurs) تربوية وسلوكات أخلاقية تهذب ذوقه وتصقل مداركه وتوسع أفقه للتلقي واكتساب المعرفة؟
تقتضي الإجابة عن هذا السؤال الإحاطة بالأبعاد الجيوفضائية للمؤسسات التعليمية، المكان الذي يشكل نواة أساسية لتنشئة الفئة الفتية من المجتمع، فضاء يساهم في التربية، التنشئة، والتلقين، عن طريق إعداد
إنسان الغد الذي يكتسب قيما وسلوكات أهمها: الإلتزام، و تحمل المسؤولية، والمساواة بين الجنسين، والتحلي بروح المبادرة والخلق والابتكار وغيرها كثير……
إن القبول بهذا المبدأ في تحمل المؤسسة التربوية مختلف أدوارها الريادية داخل المجتمع هو ما يجعلنا نتوجس من هذا النمط الجديد في التدريس، ففضاء البيت على اتساع مساحته،أو ضيقها لا يكسب التلميذ
مثل القيم السالفة الذكر، ثم إن سهولة التواصل ونقل المعلومة والحصول عليها أصبحت عملية متاحة للجميع، لكن طريقة وكيفية اكتسابها تبقى خيوطها الأساسية بيد المدرس، الذي يوصل معارفا وقيما في الآن نفسه، وهو إذاك يعلم ويربي ويعد أجيال الغد، لذلك فالتعليم عن بعد يظل ميكانيكيا آليا ، نرتضيه حلا آنيا في زمن الجائحة، الحل الذي قد يساهم في التخفيف من حدة الاكتظاظ داخل الأقسام، لكنه لن يكون بديلا عن التعليم الحضوري،
وقد لا نبالغ إذا قلنا إن قرار ترك حرية الاختيار في نمط التدريس المناسب للآباء يعد مغامرة كبرى مجهولة المصير والنتائج، في ظل الظرفية الصحية والحالة الوبائية التي تسجل ارتفاعا في عدد الحالات المصابة بالمرض،لذلك وجب الإلمام الشامل بحيثيات الوضع الراهن وإشراك جميع فعاليات المجتمع المدني وهيئاته الحكومية في اتخاذ القرارات المناسبة مع مراعاة التوزيع الجهوي لعدد الإصابات وخصوصيات كل منطقة الاقتصادية والاجتماعية
وقد تواجه الطاقم الإداري إكراهات جديدة تتمثل في صعوبة تحديد البنية التربوية المناسبة لجداول حصص سيعتمد جلها التفويج للتخفيف من عدد التلاميذ داخل الفصول الدراسية حتى يتم الحد من الاكتظاظ داخل الأقسام، مع العلم أن الوزارة الوصية مطالبة في المقام الأول بضمان حق المتمدرس في التعليم، لأنه من الحقوق المدنية والإنسانية.
كما سيبرز جليا دور المدرس المبدع في انتقاء الأهم من المعارف وتكييف عناصرها الأساسية مع توزيع الحصص حتى يستفيد مختلف الأفواج من حقهم الكمي العادل في تحصيل نفس المعارف واجتياز الاختبارات التقويمية التزاما بمبدإ تكافؤ الفرص.وهو ظرف استثنائي ستختبر فيه الأدوار الحقيقية لبعض جمعيات المجتمع المدني وهيئاته، إذ من واجبها والحالة هاته البحث عن سبل الدعم المختلفة للمؤسسات التربوية ماديا واجتماعيا عن طريق التوعية والتحسيس بمخاطر الوباء وسرعة تفشيه،وكذا اقتراح حلول كفيلة بتنظيم تمدرس التلاميذ في وضعيات آمنة، وتحمل المسؤولية في التعقيم والحماية واحترام آليات التباعد والحفاظ على النظافة.
وختام القول أننا نواجه معركة مصيرية ضد جندي مجهول الهوية، مازالت المختبرات العالمية ومنظمة الصحة العالمية والأطباء وعلماء الفيروسات والأحياء يجهلون أبرز خصائصه المحددة والدقيقة، إذ سرعان ما يتم كل يوم التوصل إلى خاصية جديدة وأعراض للوباء مختلفة عن سابقاتها، الشيء الذي يجعلنا نتوجس من النتائج الوخيمة للإهمال والتهاون وعدم تطبيق البرتوكول الصحي العالمي، في انتظار لقاح محتمل فعال يمكن أن يكون الترياق للبشرية من ويلات وباء أصاب الملايين وأزهق أرواح الكثيرين.

> بقلم: ميلودة العكرودي

Related posts

Top