الدكتور أحمد بورة.. من ذاكرة مناضل تقدمي

الحلقة الخامسة

شهد مغرب ما بعد الاستقلال وقائع سياسية كبرى مست الدولة والمجتمع، وأحداثا مؤلمة ميزت التاريخ السياسي للمغرب المعاصر، ومحطات كان لها تأثير كبير على ما نحياه اليوم من حراك لا يختلف في أهدافه، برغم اختلاف الأسلوب والأدوات المستعملة فيه، عن حراك أشد وأقسى كان فاعلوه مناضلين من طينة متميزة، استماتوا من أجل حق الشعب في إسقاط الفساد وفي نظام ديمقراطي وفي عيش كريم. فظلت أعينهم على الدوام شاخصة نحو وجه مغرب مشرق وجميل.
ليس كل تاريخ هذه المرحلة من مسار الوطن مدونا. فمن المؤكد أن تفاصيل بقيت مخبأة تنتظر منا النبش في الركن الخفي من الذاكرة السياسية لرجالات رسموا بنضالاتهم أخاديد شاهدة على معلومات تفيد في إزالة بعض العتمة المحيطة بكثير من التفاصيل الغائبة.
في حياة هذا الرعيل الأول من زعماء وقادة سياسيين أحداث مختلفة، فردية وجماعية، لا يمكن الاستهانة بأهميتها، لأنها تشكل عناصر من شأن إعادة قراءتها وترتيبها تسليط أضواء كاشفة على صرح الحدث أو الأحداث التي كانوا شهودا عليها أو اعتبروا جزء لا يتجزأ منها.
لم يكن لنا من خيار للإسهام المتواضع في قراءة مرحلة ما بعد استقلال المغرب سوى طرق ذاكرة شخصية سياسية من الشخصيات التي راكمت خبرة سنين طويلة من النضال الملتزم، وما تعنيه من نضج ودراية وصدق في استحضار معطيات هامة ومثيرة يحصرها البعض في خانة «واجب التحفظ».
وقع اختيارنا على الدكتور أحمد بورة كذاكرة مفتوحة على أحداث النصف الثاني من القرن الماضي وعلى عقد من هذا القرن الجديد عاشها أو عايشها. لم يكن هذا الاختيار اعتباطيا. فالرجل لازالت شرايينه تنبض بالوطنية وبالأفكار التقدمية، يتابع عن قرب وعن كتب أخبار الوطن وقضايا الشعب. لا يختلف في ذلك عن أي  قائد سياسي تمتزج بين طيات شخصيته المتناقضات والمتآلفات.
يفتح لنا الدكتور أحمد بورة، طيلة هذا الشهر الفضيل، صفحات سجل حياته بنوع من الحنين لتلك الأعوام التي عاشها أو عايشها والتي يمكن أن تشكل بالنسبة إلى الباحثين والقراء  مرتعا خصبا  لكل من يريد البحث عما تختزنه الذاكرة من رؤى ومواقف وآراء ومعطيات….
أحمد بورة شخصية بارزة في حزب التقدم والاشتراكية العريق. حزب  ناضل، منذ أربعينات القرن الماضي، بتميز وبصدق وإصرار، رغم المنع والقمع، وذلك تحت يافطات متنوعة، فرض تغييرها صموده من أجل الأفضل للبلاد.
أحمد بورة، ابن الطبقة الشعبية التي ظل ملتصقا بها، بهمومها ونضالاتها وأحلامها، بادلا لها من ذات نفسه كل ما يستطيع أن يبذله المواطن الصالح لوطنه، وجاعلا من صدر الطبقة الكادحة، في أشد لحظات النضال قتامة، متكئا لينا يلقي رأسه عليها فيجد فيه برد الراحة والسكون.
من معين هذا المناضل، ومن  تفاصيل حياته الشخصية، نقدم لقرائنا هذه الحلقات التي حاولنا صياغتها على شكل قصص وروايات وأحداث، وأحيانا طرائف ومستملحات، لتعميم الفائدة ولتسجيل أوراق شاهدة على مرحلة من تاريخ ما بعد استقلال المغرب.

عريف القسم بعد المعطي بوعبيد ومنحة شهرية لا تتعدى 500 درهم

أسند ظهره على جـدار البهـو، ووقف يرنو إلى أمه وهي تحضر له حقائب السفر، وإخوانه من حولي لا يكـفــون عن الغـدو والمرواح. رصد في العيون دموع حـزن ممزوجة بالاعتزاز، كان أول من يرحل عن بيت أسرتـه من الأبناء لمتابعة الدراسة.
وفي ميعاد السفـر إلى الدار البيضاء، اجتمع أفــراد الأسرة والجيران ببيت تحـول إلى شبه خلية نحـل، كلهم جاؤوا لتوديع “أحمـد” الفتى الذي يتأهب لولوج عالم جديد يفتح له آفاق مستقبلية زاهرة. بيت أحمد  يعيش شبه عـرس ما عهد له مثيلا إلا عند تـوديـع الحجـاج.
ارتمى في حضن أمه التي طبعت على جبينه قبلـة عميقة، وراحت يسلم على أبيه ويقبل يــده، ففي رضا الوالدين مفتاح الفلاح. دموع وقبل وعناق انتهت به إلى محطة المسافرين، فمن هناك تبدأ في التحـرك رحلة حافلة “الساتيام” صوب العاصمة الاقتصادية.
الأمتعـة اقـتسمت مع المسافرين كل مقاعد السفر، واختلطت على الطفل أحمد  مرارة الوداع ب”صنان” (رائعة عرق كريهة) بعض الركاب القرويين وعرقهم الذي يكاد يزكم الأنوف.
تحـركـت الحـافلة ومعها تحركت مقلتيه دموع وبكيى بكاء غـص حلقه عليه.. انتابتـه مشاعـر تجمع بين التوجس والخـوف من غـد لا يعلمه إلا الله. العجــلات تلهب إسفلت الطريق كما تلهبه مخافة قسوة الحياة وشظفها. ومن قرارة نفسه انبعث هاتف يستوصيه بنفسه خيرا، ويقول له إن المغامرة لن تكون سهلة، فالأكيد أن ضيق الحياة المـادية سيكون أول عناوين رحلـة التحصيل، وما عليه إلا أن يحسن تدبر منحته – التي تتعدى بقليل 500 درهم- لتكفيه مصاريف شهر كامل.. مهمة صعبة رجى الله أن يجعلها هينة وميسرة، وتمنى ألا تصير في حكم الاستحالة.
بدأت الحافلة تقـتـرب من مشارف المدينة، وأخـذ يصول ويجـول ببصره بين الشوارع العريضة والعمارات الشاهقة ومظاهر العناية بالمساحات الخضراء، شعر أن المدينة البيضاء تروي له في صمت روايـة مواكبتها لعصر مرسوم بريشة مهندسين غربيين أكفـاء.. ومن محطة الستيام بالقرب من ميناء المدينة ركب سيارة أجـرة وطلب من سائقها التوجـه به إلى شارع فيكتور هـيـجـو حيث مـقـر “الإعـدادية الإسلامية” المؤسسة التعليمية التي سوف تحتضن طموحاته التي لم تكن تنحصر على  شهادة الباكـلـوريــا.
في تلك الفترة من زمن المغرب، خصصت لأبناء الأثـريـاء والموظفين والتجـار الكبار “مدارس أبناء الأعيان” أما أبناء الحرفيين والعمال وصغار الموظفين فقد أعـدت لهم، في المدن، مدارس حضرية، وأنشئت لهم، بالقرى،  المدارس القـرويـة التي كانت تلجها الفـئات المشتـغـلـة بالفلاحـة والـزراعـة.
بدأت أولى المواسم الدراسية بمدرسة أبناء الأعيـان بالدار البيضاء مع بدايات الحمـاية الفرنسية بالمغــرب، وهي المدرسة التي ستحمل اسم الإعدادية الإسلامية المعروفة حاليا بثـانـويـة مولاي الحسن. وقد خطط لها أحـد بنـاة التعليم العصري بالمغرب، مدير التعليم العمـومي والفنـون الجميلة والآثــار بالمغرب الأستاذ “جورج هـاردي” الصديق الحميم للمارشال ليوطي المقيم العام الأول لفرنسا بالمغرب. وأسند الإشراف على إدارتها إلى عدة مدراء منهم المدعو بيـيـر دومــا.
بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية ومع تنامي الانتماء والشعـور بالحس الوطني بدأت طلائع تلاميذ الإعدادية الإسلامية المغاربة تشق طريقها.
كانت المؤسسة جغرافيا تشمل الدار البيضاء ونواحيها وتمتد إلى مناطق عبدة ودكالة وتادلة، ومع تقاطر أعداد متنامية من التلاميذ عليها تحولت هذه الإعدادية إلى مؤسسة تتابع بها الدراسة إلى حدود مستوى الباكلوريا الأولى لتخصص الفلسفة.
لم يكن أمر الالتحاق بهذه المؤسسة سهلا ولا متاحا إلا للتلاميذ النجباء، كما خطط لذلك مشروع التربية والتعليم الكولونيالي، فكان ولوجها يتطلب الاستجابة لشروط شبه تعجيزية، منها الحصول على الشهادة الإعدادية بامتياز، بالإضافة إلى التوفر على مجموع مشجع يؤهلك للمستوى الثانوي المحصور في الحصول على شهادة الباكلوريا الأولى.
ما أن اقتحم أحمد بورة  بابها وأخذ مكانه بين طلبتها حتى أحسس أنه قطع خطوة عملاقة تحقق بها حياته نقلة نوعية من عالم المحال إلى عوالم الآمال .
انتابه حينها إحساس عميق بالفخر لكونه أصبح منتميا لصرح علمي عتيد كان بناته الأوائل يأملون خيرا في اكتشاف شعلات ثقافية وإضاءة قد تفيد البلاد المحمية والسلطة الحامية معا، وكم استشهد أساتذة أحمد بورة الأجانب بتوجه هذه المؤسسة ومنهم “بيير دوما” الذي توجه إلى تلاميذ مدرسة أبناء المسلمين سنة 1926 بقوله :
“أنتم الذين تقفون اليوم على بوابة الحياة، نعلم أنكم سوف تواجهون الصعوبات والعقبات التي بدونها تكون الحياة رتيبة وبلا معنى… الأكيد أنكم لن تندموا يوما على تعلمكم اللغة الفرنسية بعد العربية لغتكم الأم… وسنسعى جاهدين لتكون معارفكم بهذه المدرسة جسرا بعد العربية لغتكم الأم… وسنسعى جاهدين لتكون معارفكم بهذه المدرسة جسرا يمتد بكم بالجد والاجتهاد والمثابرة إلى مصاف نخبة المجتمع المغربي القادرين على أن يصبحوا فيه منتجين ويعتلون به مناصب المسيرين والقادة. فلا تذخروا أي جهد أعزائي لتبلغوا هذا الطموح وتنالوا مكافأته عن جدارة واقتدار، إدارتكم تثق في كون دينكم ومعتقداتكم يؤهلونكم للنجاح فكونوا أهلا لثقتنا في أبناء دينكم”.
وبسبب هذا التوجه أقبل الأبناء من كل الفئات الاجتماعية على هذه المدرسة، خاصة وأنها تمتع المنتسبين لها لعدد من الخدمات التي يستفيد منها أبناء المحتاجين، من مأكل وملبس ومقررات ولوازم مدرسية ومساعدات أخرى.
وطيلة مدة دراسة أحمد بورة بها، كان يأمل أن يلحق بركب الخريجين القدامى أمثال الجنرال حسني بن سليمان والمرحوم مصطفى عكاشة والأستاذ جلال السعيد الرئيسين السابقين لمجلس المستشارين، وعدد مهم من المهندسين والأطباء ورجال الدولة.
وكما كان المرحوم المعطي بوعبيد مسؤولا على التلاميذ الداخليين بذات المؤسسة بالفوج الذي سبقنا مباشرة. وقد أسندت لأحمد بورة نفس المهمة بعد انتخابه وظللت يباشرها إلى حين حصوله على شهادة الباكلوريا الثانية.
خلال هذه الفترة، حقق أحمد بورة وزميله الدكتور أحمد أوتكنزة لفائدة القاطنين العديد من الأمور التي ساعدت على تحسين إقامتهم بداخلية الثانوية مقارنة مع السنوات الماضية، من حيث نوعية الأسرَة، وقاعة مراجعة الدروس والاستفادة من خدمات الحمام والمطعم، وتحسين نوعية الوجبات الغذائية.
وحتى يحسن تدبير مصروفه الشهري، كان تجواله لوسط المدينة، على غرار القاطنين بالداخلية، مقرونا بأن يمشي بجيوب فارغة من النقود حتى لا يطمع في تناول أكلة شهية بمطعم شعبي أو حتى فنجان قهوة أو شربة حساء… نفقات من هذا القبيل كانت تثقل كاهله وتزيد وضعه المادي تأزما، خاصة وأن ما يفصله عن عائلته أمرين لا يطاقان هما بعد المسافة وضعف ذات اليد…
في حين كان أقرانه من العائلات المقتدرة والميسورة يتهافتون على اقتناء الدراجات النارية وأحدث ملابس الموضة، ويتباهون بها كما يتباهى جيل اليوم بالأجهزة الالكترونية والهواتف الخلوية الباهظة الثمن.. وكانت محدودية مقدرته المادية مقارنة بأبناء النخبة تشعره أحيانا بنقص ودونية كان نداريها بقليل من الاعتزاز بالنفس.
لم يكن أمامه من خيار وهو الذي لا تبلغه مساعدات من العائلة – إلا لماما – سوى الاكتفاء بما تتكرم عليه به صحون الداخلية من زاد. أيام كانت تمر عليه صعبة ومريرة، يستعرض مآسيها مع أصدقائه كلما آووا إلى أسرتهم و انطفأت دونهم الأضواء التي قد تفشي أسرارهم للغير. ورغم ذلك تعلم أحمد بورة وأصدقاؤه أن ليس لحال العسر دوام، والدنيا متقلبة بأهلها من حال إلى حال، وأن الغد الباسم لا تفصله عنه إلا خطوات.
وكان يستعين، مراعاة لحالته الاجتماعية، بالتشمير على سواعد الجد والاجتهاد والمثابرة والتفاؤل بالمستقبل والتسلح بزاد الإيمان . وكان التقرَب إلى الله خير له من الدنيا وما فيها، لذا واظب، بمعية القاطنين بالداخلية على – صلاة الجمعة – طيلة مقامه بالمؤسسة على عهد الرقيب جي مارتيني ومدير المؤسسة السيد الحجوي رحمه الله.

 إعداد: مصطفى السالكي

Related posts

Top