في طبعة أنيقة عن منشورات جامعة المبدعين المغاربة، وبعنوان شقي ومستفز أطلت علينا الشاعرة فاتحة الفتنان رفقة الشاعر محمد الشافعي بديوان زجلي موسوم بـ «غلطة و ندامة» من الحجم المتوسط، تتوسط غلافه الذي زينته تموجات لونية موشومة بالأبيض والأزرق كدلالة على الأمل والحياة، صورة شخص مبهمة الملامح تبدو عليه علامات الندم، انتقاء لم يكن من باب الصدفة بل هو عنوان ضمني للديوان وانعكاس مباشر لما حملته دفتي الديوان، فهما – فاتحة الفتنان ومحمد الشافعي- بذلك يشتركان من خلال لوحة الغلاف والعنوان بحكم أن الإنسان هو المحور والموضوع الأساسي الذي يتطرق له الديوان ضمن عناوينه المفهرسة، كذات في علاقتها بالآخر من خلال (الغلطة) قد ارتكبها في علاقته بالآخر نتج عنها ردود فعل الطرف الثاني ليدخل في مراجعة للذات ويؤثثها (ندم) .
الديوان يتكون من ثمانية وعشرين قصيدة ما بين المعنونة وغير المعنونة، تاركة للقارئ حرية التسمية، قصائد تتميز معظمها بالطابع الوجداني والعاطفي الذي تغلب عليه روح البوح والخطاب النفسي، مما يعكس العوالم الداخلية للشاعرين من عشق وخيانة وندم وخيبة أمل واعتراف بالخطأ وفرح وحزن، وفق صياغة دون قيود أو حواجز موظفين حينا لغة مفهومة وقريبة وأحيانا رموزا مما يضفي على لغة الديوان الزجلية قوة وعمقا دلاليا، يعكس واقعا قلما تم التطرق له بنوع من التمرد و الجرأة كتجربة شعرية زجلية اختارا الشاعرين الإبحار من خلالها، اعتمدا من خلال نصوصهما الحوارية حقول دلالية أرادا من ورائها تثبيت نصية النصوص ودلالتها، مركزين على ثلاث حقول، وهي الغدر والهجر، الندم والاعتراف، ومحاكاة لغة الكتابة كوسيلة لا غاية في تفريغ الحقلين السابقين. كما في قصيدة «لكتابة» للشافعي:
«تنفسني لكتابة
إلى ضاقت بيا نكتب
في نصيبي مكتابة
وين عليها نهرب
ترفه وتزول الكآبة
و تفاجي هم و كرب
و حينها ترد عليه فاتحة الفتنان :
شحال كدك يا ذاتي
م تجدبي؟
و انت وحمك موجع عل لحزان
شحال كدك ؟؟؟
م تهري ف فراش لقصيدة
ب مداد لخلوة».
حوارية في غاية التناغم والانسجام، تعتليها تدفقات شعورية يغلب عليها الذاتي، من خلال استعمال ضمير المتكلم في مجمل القصائد، خاصة عندما نرى القصائد تعزف على وتر الندم و الغلط، ندم على ما ارتكب، ندم على ما سيرتكب، نتيجة ما يعيشه أو ما سيفرض عليه، وهو ما نستشفه من أول قصيدة بالديوان «غلطان» حين تمت مواجهة العشيق ومعاتبته بعد الهجر ونسيانه لود السنوات وتنكره لها، في وصف رائع وتشبيه واستعارة بليغة حين شبهت الشاعرة فاتحة حب الحبيب بالجدر الذي تم انتزاعه من التربة، و المقصود بها هو القلب.
«ياك أنت كربلتي التربة
و قلعت هواك من جدر
نشفت الدمعة
للي كانت ليك تبوح بالسر
وجاي اليوم تحاسب و تلوم»
ووسط معطف الندامة والاستعطاف بأتي الرد من – الشافعي- مستجديا طالبا الرحمة لحاله والتحلي بالصبر من الحبيبة لما فيه من عبر و دلالات، على أنه نادم أشد الندم ومتيم بمن لامته على غلطته.
«شوفي من حالي و شفقي
رحمي هاذ الحالة
العين تجري بدموع
و النار فكلبي شعالة
جيتك ندمان و حشمان
لا تقويها لملامة»
هي معان تتراقص على نغمات ما يعتري العشق من خلال حالات النفس المتحولة والمتغولة الموسومة بالألم والمتجلي داخل جدل ثلاثي الأبعاد تتراوح تفاعلاته بين الإحساس الداخلي و صراعاته بين اكتواء الذات و تقبل أقاويل الغير و البوح الجريء وردود الفعل، وفيه تتدرج الزجالة « فاتحة و الشافعي « تدرجاً متوازنا يرسم معالم الذات المكتوية وبين الانفعال كرد فعل لحظي حين الشعور بالإهانة و الغدر، في ظل مجتمع لا يرحم، وبين تقبل اللوم من الطرف الثاني كاستعدادٍ طبيعي لصحوة الضمير و محاولة الذات للعودة لطبيعتها، أو محاولة الهروب من الوجود القاهر، وبين المزاج كمركب سيكولوجي يتحكم في الذات، وفق تدفق إبداعي ثري و غني من حيث الدلالات و العبارات الموسومة بالجرح و الندم تارة و أخرى بالاستسلام و الاعتراف « نسيتي الود – رامت الجروح – تخون – ندمان و حشمان – قساح الكلب – ذبل حالي – تشويت – كابرت – محاين – خاطر الكلب – كي الشوق – رحميني – خانقاني – نحس بك قطرة – ظفاير لشواك … « هي تعابير إذن تصرح بالجرح و في نفس الوقت الرغبة في الحياة، و محاولة تحويل الجرح إلى قوة و ممارسة فعلية للوجود، رغم المضي في درب الزيف والحب الكاذب، مصممة على عدم هدم البناء المتهاوي أصلا، صونا لكرامة و كسر شوكة الكائدين.» ص : 34 «
«مرة يلسعني حر الشك
مرة عليك نغضب
نكول
آش داني نكتبك قصيد
ونرسمك ف لبال
نلبس خبالك ونشد الطرقان
من نهار تخلقت منك
وانا حالة شراجم لكسدة
نشم ريحتك»
فهي تؤكد من خلال لوعة الحرف على أنها تريده قمرا يضيء عتمة ليلها وسحابة تروي عطش ذاتها، تريده أن يحول خريفها لربيع على مدى الحياة من خلال تعبير دلالي رائع « نبغيك تكون / على قد لحاف لعمر/ فراش و غطا/ ندفي ترعاد لوحدة/ و نوس بيامي لمهجورة «، ليبقى خطاب المخاطب في صورة المحبوب المنهار في ظلها رغم ما اقترفه في غلطة، مستجديا بعدم الاكتراث بأقوال الناس مع الندم على فعلته، متشبثا بهذا الغرام، متأرجحا من الحزن إلى الندم، فالخوف من لامبالاة الحبيب لنجواه، ص: 19 « بغيت نتكلم كلام/ طفى في حلقي جاف/ كلام الناس هتوف/ كدوب و تخراف/ قلبك كبير ما حافى/ رحيم عليا عطاف .. « فالتوسل للحبيب، مع الخوف من العودة المحفوفة بالمجهول، ص:28 « بغيت نكول شي كلام/ و خايف نفتح باب اللوم/ شي حاجة فصدري خانقاني/ و التنهيدة زايداني .. «.
إن الشاعرين وهما يعيدان تشكيل الكلمات ويطوعانها في قالبها الشعبي التقليدي وفق الأنماط الزجلية المتداولة في عمق المجتمع المغربي الظاهرة منها والمضمرة، يؤكدان على تجربتهما في معترك الحياة اليومية ومخالطتهما لمختلف شرائح المجتمع، مما يجعل قصائد ديوانهما تصل للمتلقي بكل سهولة وليونة مشبعة بالمقاصد التي تسعى لبلوغها وبروح بلاغية، مما جعل بعض قصائد الديوان تساير الزمان الذي هي فيه. ص : 57
«ياك لقصيد
هي مناول لكلمة
ديم مسلحة
عمر برودها م يخوا
مسايرة لوقت
مساويا الصروف
ف جيوب ليام مصرفة»
وظفت فيها مرجعيات معرفية وثقافية و لغوية، معتمدة على محسنات الإبداع من استعارة وتقابل وتشبيه وانزياح وتناص « راه الصبر حل لمسايل —– الصبر مفتاح الفرج / اللي قرسو لحنش م الحبل راه يخاف.. اللي عضو الحنش من الحبل يخاف «. « نلبس خيالك – عرش الصدر – سيوف العطفة – زرعني بين ضلوعك بدرة – نشوفك حمامة – خلي خريفي ربيع … «، إلى جانب هذا نجد أن هناك تنويعا في الإيقاعات الموسيقية للقصائد من خلال التركيز على حروف المد الطويلة «راكلبي – معندوش – ما تبقاش – يا سلام – نحميك – حاضيك – لهموم – مرايا – خصامك – حلامي – يغويني – لحلام … « لما تكتسيه هذه الحروف من خاصية سيميائية، أغلبها حروف تحتاج لنفس طويل للخروج، وهي حالة في نفس الوقت تعبر عن الحزن والألم الذي يعبر عنه الزجال كما هو متعارف عليه في علم اللغويات.
وأخيراً، لقد استطاع الشاعران فاتحة الفتنان ومحمد الشافعي بفضل تجربتهما في معترك الحياة اليومية وموهبتهما الابداعية وثقافتهما الواسعة ومقدرتهما اللغوية، أن يخلقا من خلال ديوانهما المشترك حوارية غاية في الابداع والتميز، فديوان «غلطة و ندامة» ما هو إلا بطاقة تعريفية للشاعرين و خوضهما في بحور الزجل وألحانه العذبة، وأن ما زعمنا أنه قراءة لهذا الديوان ليس إلا مفاتيح لقراءات أخرى، نأمل أن تليها قراءات، ربما تتطرق للجوانب التي أغفلناها.
الروح الإنسانية في الديوان الزجلي «غلطة وندامة» للشاعرين فاتحة الفتنان ومحمد الشافعي
الوسوم