ما الذي يمكن أن يُقرأ، في مشاهد سريالية، يراها الناس اليوم، في جنوب غربي سوريا، من شاكلة أن تختلط فيها وجوه الملتحين السابقين بكثافة، من جماعة “النُصرة” الذين شذبوا ذقونهم، ودخلوا الآن منظومة الشرطة العسكرية الروسية وتسلموا المخافر تحت قيادتها؟ وبحكم تركيز أهالي ذلك الريف العربي المحافظ، على عنصر المرأة الكاشفة؛ ما الذي يمكن أن يلتقطه الأديب القاص، من مفارقات حضور الضابطة الروسية الشابة، التي تقلدت منصب القيادة الشرطية العسكرية، وتحت إمرتها رؤساء المخافر الفرعية الجدد، من الإسلامويين السابقين، كما يرتسم الآن، من الوقائع الماثلة أمام ناظر أهالي مدينة “نوى” في ريف حوران؟.
حقيق على السوريين من أهالي المدينة التي تسلمت رئاسة حفظ النظام فيها شابة روسية شقراء؛ أن يروا في حضورها بشارة الطهارة وحفظ الرؤوس، بعد أن تنفسوا الصعداء من قبائح الملتحين الذين تعاونوا مع إسرائيل علناً، ودفعوا المرضى إلى أخذ طبابتهم فيها مقابل عمولات، وهم يعرفون أن كلاً من المرضى، بعد طبابته وقبل عودته، حصل على بعض الدريهمات التي يحتاجها كمساعدة، لكي يستكمل حياته بعاطفة جديدة، مفعمة بالامتنان، حيال من احتلوا أرض الجولان، وقتلوا العرب على مر عقود، وكانوا- مثلاً- قُبيل حرب تشرين عام 1973 قد قصفوا بلدة “داعل” في ريف درعا نفسه، واستهدفوا المدرسة القديمة فيها فأزهقوا أرواح الأطفال والشيوخ والنساء في البلدة!.
ربما بعد أشهر، تُزف الضابطة الشقراء لواحد من ذوي الأسماء النورانية، كأبي مصعب وأبي البراء وغيرهما، ليُستكمل انكشاف جوهر هؤلاء الذين نصّبوا أنفسهم قيمين على الإيمان وحملة الرسالة، وتذابحوا في ما بينهم دون أن يكون للرسالة، أو للقرآن الكريم، أي تأثير إيجابي على سعيهم وأخلاقهم.
قادة فصيل إسلاموي آخر، في قرية “مزيريب” مندرج تحت عنوان “الجيش الحر”، أولموا قبل أيام لضابط المخابرات السوري المسمى “العميد لؤي” الذي عاث فساداً في درعا، وكان من بين أسوأ الذين تسببوا في انفجار انتفاضة الشعب السوري. ذبحوا له الخراف وتبادلوا العناق، في مشهد سريالي آخر، يعرض للناس لوحة فوق واقعية.
فقد انتفض السوريون لكي يتصالح رجل المخابرات مع الناس الطبيعيين، وليس مع أوغاد تسببوا في حرف انتفاضتهم عن مسارها، وجعلوا الحكم أرحم منهم على المواطنين، بعد أن تجاوزوا، على الأقل بأساليب الذبح المصور والمعروض في أشرطة فيديو، ليصبح الطرف الذي يقتل وينهب ويخترع مصطلح “التعفيش” أي انتهاب أثاث منازل المواطنين، عندما يرتفع عن بلداتهم كابوس الإسلامويين، ثم يحاول مداراة نفسه، أقل قبحاً من الطرف الذي يذبح وينهب ثم يعرض أشرطة فظاعاته.
إن التصالح بين معظم الذين فعلوا الكبائر في شعب سوريا المظلوم، يفتح الباب واسعاً للقناعة بأنهم في الأصل، ينتسبون إلى كبيرة واحدة فاجرة تفرقت تكتيكياً، بينما إسرائيل تعرف وتراقب وتحث، ثم لا تتردد في الإفصاح عن خياراتها.
المعتوهون وحدهم، والمُغرر بهم، الذين صدّقوا أمراء الضلال والدجل، وتسممت عقولهم بالفقه الرديء؛ وجدوا رؤوسهم في لحظة الحقيقة، مطلوبة للسكين. فحوصروا في مثلثات الأرض وزواياها كحوض اليرموك، لكي تتكفل كل قذيفة، بتحويل مجموعة منهم إلى أشلاء.
ثم وصلت الضابطة الروسية الشقراء، من شرطة عسكرية في بلاد بعيدة، لكي تعلمهم أن ثمن النجاة هو أن تتراجع رجولتهم وتخف ذقونهم وأوزانهم، وتحال سكاكينهم إلى المزابل لكي تحرق، مع الاعتراف لهم ببعض الفضل على عمل واحد حميد، بالمعايير الروسية، وهو ارتقاؤهم إلى مستوى علاقة التعاون والتساند، مع إسرائيل.
في لوحة جنوب غربي سوريا، ينفتح للمؤرخ والمعلق والمحلل السياسي، باب الـتأمل واقتناص عناصر الرواية والحكاية والكلام.
في البيان الأخير لــ”الهيئة السورية العليا للمفاوضات” الصادر في الثاني من الشهر الجاري، وهو يتعلق باللجنة الدستورية والعملية السياسية التي ترعاها الأمم المتحدة في جنيف؛ كان ذوو الياقات المنشاة، الآمنون في مهاجرهم التركية والبريطانية وغيرها، قد ناشدوا الشعب السوري أن يرتفع إلى مستواهم “بعيداً عن حلولٍ عسكريةٍ متوهمة، تؤدي إلى تدمير ما تبقى من وطننا” وتناسوا أنهم هم الذين حثوا على الحل العسكري.
وليت هؤلاء قالوا ذلك عندما كان الأتراك يضخون إلى سوريا من الشمال ذوي لحى إرهابيين من جهات الدنيا الأربع، ويستحثون ذوي لحى أخرى لكي يأتوا من الشرق بالهذيان والوحشية المضادتين.
لم تكن أوهام المغرر بهم من السذج والمرضى النفسيين الذين دخلوا مع الأولين، أقل من أوهام الذين جاؤوا من الشرق، لكي يفتحوا طريق البحر لإمبراطورية فارسية، تحمل ضغائن التاريخ وتسعى لبناء مجدها فوق جماجم الناس في أوطانها. وماذا كانت النتيجة التي يلمسها البسطاء اليوم؟
الروس والإسرائيليون والأمريكيون، يرسمون مستقبل سوريا، والمتنافخون في تركيا وإيران خارج اللعبة، والتسويات في كل موضع موصولة بحسابات إسرائيل وأمنها. أما الملالي مع السلطان العثماني، فقد أدوا أدوارهم، فأنشأوا على الأرض وبحراك السكان قسراً، خارطة التقسيم، مرة بسيناريو خفض التوتر، ومرة بالحفاظ على الرؤوس حاملة الذقون، بنقلها لتجميعها في إدلب، ومرة بإيقاع واشتراطات القوة المتبقية للنظام، على سكان المناطق “المحررة” من قبضة السابقين، ومرات لا تُحصى، بالقصف المدمر.
في هذا السياق، حلّت الشرطة العسكرية الروسية، في المناطق القريبة من الحدود، وسمح لقوات النظام بالانتشار على قاعدة أنها الأرجح سلوكا حيال إسرائيل، وتبدد الشعب في أرجاء العالم، وتوحد ذوو الكبائر في كبيرة واحدة.
* كاتب وسياسي فلسطيني
> عدلي صادق*