الهم الحداثي

إشكالية الحداثة هو صراع طبقي ومشكل ثقافي في حد ذاته، فلكي تظهر إشكالية الحداثة كإشكالية نظرية ذات أبعاد واقعية، يجب أن نعود إلى تلك العلاقة الجدلية التي تربط الواقع بالفكر، فالفكر لا يمكن أن يعكس الواقع بأي حال من الأحوال، كما تعكس المرآة الصورة المنعكسة لها. لكي يتم هذا الربط الجدلي المنهجي النقدي بشكل محدد، نحتاج إلى القيام بعمليتين اثنتين للتعبير عن هذا الواقع نفسه، حتى يكون الفكر تعبيرًا عنه بشكل حصري.
فتحليل الواقع يهدف إلى الكشف عن بنيته بغية استخراج ثوابته ومتغيراته واستخراج النموذج الصوري الذي يمكن أن يناسبه.
فنحن هنا لا نبحث عن إيجابات ممكنة أو سجالات مقصودة أو تأويلات جاهزة، كما هو الحال بالنسبة لمجموعة من المثقفين العرب الذين تطرقوا لأشكلة الفكر العربي المعاصر، بقدر ما نرنو خوض بحث نقدي في أفق صياغة إشكالية واسعة الأبعاد والمعالم، طُرحت عند مفكرين آخرين بطريقة مشوهة جدًا، وهذا يحيلنا على أزمة الإبداع في ارتباطها بشكل جدلي بمسألة النهضة العربية وسؤال الدولة: وهما إشكاليتان في اعتقادي يرتد إليهما بشكل أو بآخر كل المطارحات والنقاشات التي ساهم بها مفكرون ومثقفون عرب ومغاربة في الفضاء العربي العمومي من أجل تحسين الواقع معرفيا من كل تشويه إيديولوجي قد يطالها.
أعتقد بضرورة تحليل صورة الواقع نفسه كما تنعكس في وعي الناس وإعادة مفصلتها وتركيب أجزائها لاستخلاص صيغتها العملية والعلمية، أي الصيغة التي تؤسس الوعي النظري العلمي الدقيق بالواقع نفسه.
طبعًا هذا الربط لم يستحضر في أغلب المواقف المتضاربة للنخب المثقفة في مسألة فهم واستيعاب إشكالية النهضة العربية وارتباطها بإشكالية الحداثة.
يمكن الوقوف، مع تلاث تصورات كبرى إليها ترتد مختلف النقاشات الدائرة في الساحة العربية حول مسألة النهضة والتحديث.
أولا- الموقف المعاصر:
وهو الموقف الذي يعتبر أن مسألة النهضة يمكن أن ترتد بشكل أو بآخر للنموذج الغربي كصيغة جاهزة، “واقعية النهضة مثلا في أوروبا”، سواء اخترنا الاشتراكية، أو الليبرالية.. فقد حققت نجاحات يمكن أن نأخذها بعين الاعتبار من أجل تحقيق تقدم النهضة في البلدان الغربية.
ثانيا – الموقف السلفي:
وهو عكس التيار الأول، يعتبر أن النهضة العربية الأولى حتى هي صيغة جاهزة من أجل أن نستنبط منها موروثا ثقافيا وفق الحضارة العربية الإسلامية للنهضة المنشودة في الوقت الراهن.
ثالثا – الموقف الانتقائي:
وهو الذي يعتبر أن مسألة النهضة هي مسألة محصورة (منزلة بين المنزلتين) يمكن أن نأخذها بالغرب كما يمكن أن نأخذها بالسلف الصالح، طالما أن مسألة التعامل مع النهضة مسألة تعامل براغماتي محض.
ما نلاحظه أن هذه المواقف فيها نوع من الاهتزاز بين ما هو سياسي إيديولوجي، نظري.. إلخ
ما يهمني في هذه المواقف هو الجانب الإيديولوجي المرتبط بها، أو النقاش النظري المرتبط بإشكالية الحداثة وما هو سياسي نتركه لما هو سياسي.
هنا نطرح سؤالا: هل نحن فعلا في وضع يسمح لنا باختيار النموذج الأنسب لهذه النهضة والواقع العربي المعطوب في دولتنا المنفصلة مع ذاتها والمنفصلة عن تاريخها؟
سؤال الاختيار بين النموذج الغربي والعربي، أصبح سؤالا غير مسؤول، لأن هذا الاختيار أُعدم بشكل ميكانيكي، في الوقت الذي انصدمنا فيه بالنموذج الحضاري الغربي.. لذلك نختار الحداثة الغربية أو لا نختارها، سؤال بات غير مسؤول مطلقا، لأن من الناحية التاريخية كدول عربية، كما هي مشكلة الآن، لم تضع نفسها يومًا في مسألة اختيار النموذج الذي يناسبها، لأن الحداثة فرضت نفسها علينا كدول مستعمرة نموذجًا يحتذى به في كل صغيرة وكبيرة، بمعنى في كل تمفصلات الحياة الواقعية، منذ التوسع الاستعماري في القرن 19م أو القرن 20م، وذلك من خلال التنظيم العقلاني في الشؤون الاقتصادية وأجهزة الدولة والعدالة الاجتماعية… لقد فرض الغرب نفسه علينا بوسائله، لذلك فقضية الحداثة هي قضية واقع جديد فرض نفسه علينا وبالتالي أصبحنا نعيش نوعا من الازدواجية عصية على الفهم قطباها هما الغرب على مستوى الواقع الفعلي، والحلم العربي النهضوي على مستوى الذهنيات.
على المستوى النظري لازلنا نفكر بعقلية مرتدة إلى السلف الصالح، لذلك كانت الحداثة الاستعمارية منذ ميلادها الأول من داخل التربة العربية، تستنبت كل أشكال تطورها تدريجيا بتحديث هذه الدول المستعمرة: في الفلاحة والصناعة والإدارة والثقافة، وبالتالي كرست النموذج الذي يمكن أن يرتبط بسهولة مع الرأسمالية ما بعد الاستعمار، لهذا لم تستطع الحركات الثورية التحررية أن تحقق النهضة لدول ما بعد الاستعمار، وحسب اعتقادي، لا يرتد الأمر إلى عائق ذاتي وإنما إلى عائق خارجي يكمن في دول الاستعمار نفسها، التي ربطت بلدان العالم الثالث بمراكز الهيمنة في أوروبا والنتيجة تبعية شاملة في كل تمفصلات الحياة.
لابد من التأكيد على أهمية التفكيك في بنية تفكير العقل العربي، ودراسته دراسة كلية وشاملة في المنحى الذي سيساعدنا على تشخيص مشكلات الفكر العربي والعقل العربي واستحضار آليات التفكير جديدة للفكر العربي المعاصر.
لذلك فدراسة القضايا المتعلقة بالنهضة العربية أو المشروع الحداثي أو الحضاري يجب أن تنطلق من رؤية شاملة تستوفي الأبعاد التاريخية، وتستشرف في الآن نفسه الآفاق المستقبلية دون تغييب بالطبع لمشكلات الحاضر وتداعياته المستقبلية.
أما من حيث طبيعة مناقشة الهم الحداثي وما تتجادبه من ثنائيات مفهومية وأزواج متقابلة من قبيل الدين والدولة والعروبة والإسلام والوحدة والتجزئة والتحديث وغيرها من الإشكالات هي في الحقيقة متناسلة من سؤال النهضة نفسه خصوصا ونحن في إطار مفهوم إيديولوجي غامض تطغى عليه العمومية، بحيث لا نجد تحديدا دقيقا لمفهوم الحداثة/ النهضة.
رغم أن إشكالية الفكر العربي مرّت عليها عقود، لكنها لا تزال تحتفظ براهنيتها وكأن إشكالات العالم العربي بما فيها من حداثة، إشكالات استاتيكية، لم تراوح مكانها منذ هاته الفترة؛ وهذا يؤكد على عمق الأزمة الفكرية التي يمر منها العالم العربي، بل الأخطر أن تجد إشكالات النهضة نفسها التي كانت في فترة زمنية معينة في أواخر القرن 19م وبداية القرن 20م لازالت هي نفسها تجد ذات الإشكالات التي طرحت مع الربيع العربي ولا زالت هي الإشكالات التي تطرح راهنا.
نحن مطالبون اليوم بالحسم في مسألة رفض كل ما له علاقة بالتقليد من جميع النواحي، وبالتالي لا سبيل سوى باللجوء إلى الحداثة التي تقتضي القطع مع الماضي قطعا نهائيا بلا مطمع العودة إليه. وإنما وجب تصفية الحساب معه بشكل نهائي على جميع المستويات الفكرية والسياسية والاجتماعية.. وهي دعوة حقيقية قائمة على الحسم والجزم على تحقيق التقدم دون الالتفات إلى الوراء.
إن نقد المجتمع ونقد الاقتصاد ونقد العقل المجرد والعقل السياسي، بدون روح علمية، سيبقى كل حديث عن التقدم في العالم العربي مجرد حديث أماني وأحلام.
نحن محتاجون اليوم إلى نقد التيارات السلفية ونقد الدعوة إلى الانخراط الفكري في تاريخ لم نصنعه لكننا مطالبون اليوم بفهمه واستيعابه، لنتمكن من الانفتاح على معاصرة فعلية وحداثة حقيقية بدلا من الاكتفاء بالنسخ المقلد، الذي يجعلنا معاصرين في الظاهر دون أن يتمكن وعينا وعقلنا من إدراك المآل الذي انتهينا إليه.
وهذا ما ألاحظه من خلال الاستمرار الثقافي الموهوم الذي يخدعنا، لأننا ما زلنا نقرأ للمفكرين والفلاسفة القدامى، فنؤلف فيهم وما هو في الحقيقة إلا سراب، وهو سبب التخلف الفكري، بل أكثر من هذا، فالغرور الذي نشعر به جراء احتفائنا الموهوم بالمثقفين الذين يكتفون بالنسخ المقلد وبذلك السراب يجعلنا دائما في المستوى الأدنى من التخلف الثقافي والفكري وعدم استيعاب هذا الانفصام الواقعي الذي جعل الذهنية العربية حتمًا مفصولة عن واقعها ومتخلفة عنه، بسبب اعتبار الوفاء للأصل والأصالة والتراث حقيقة واقعية، مع العلم أنه أصبح متجاوزًا منذ عقود وأزمان متباعدة.
لذلك نحن مطالبون باقتباس الثقافة، ثم إيجابية دور المثقف والسياسي، ولا مبرر لهذه الدعوة إلا بالاستنجاد بالحداثة في شتى الميادين الممتدة تاريخيا من عصر النهضة وصولاً إلى الثورة الصناعية، وهذا العامل التاريخي هو المرجع الوحيد والحتمي لتشييد ثورة على التقليد والتراث وإخراج البلاد العربية من أوضاع وسطوية متحجرة فكريًا إلى أوضاع صناعية حديثة.

 بقلم: جهان نجيب

أستاذة باحثة

الوسوم ,

Related posts

Top