يعود الحديث عن مالية الأحزاب إلى الواجهة مع نشر التقرير السنوي للمجلس الأعلى للحسابات، وبقدر ما في التناول أحيانا من تبسيطية وإطلاقية، فهو يستحق الدرس والاهتمام، لأنه يتعلق، على كل حال، بالعمل الديمقراطي في البلاد.
بداية، حتى تقرير المجلس الأعلى للحسابات نفسه يعرض بيانات ومعطيات تشمل كل حزب على حدة، ومن ثم يفرض الأمر تحليل الأرقام بشكل أكثر دقة، وبلا شمولية فجة.
ومن جهة ثانية، ينتظم هذا التمويل العمومي في إطار قانون، ولذلك تجب القراءة استنادا إلى أحكامه، وفي إطار نظام تمويلي ومحاسباتي ملائم، وهو نفسه يجب أن يتطور وينسجم مع الشروط الموضوعية والواقع الميداني والاجتماعي، الذي تعمل ضمنه الأحزاب السياسية.
وعلى صعيد ثالث، لا بد أن تنطلق القراءة من كون العمل السياسي وتطوير أداء الأحزاب وتقوية ركائز ودعامات الديمقراطية، يقتضي تمويل الدولة ودعمها لكل ذلك.
وانطلاقا مما سبق، يجب أن يقترن التمويل المذكور بمقتضيات للمحاسبة والرقابة على المال العام، وبالتالي ربط الدعم العمومي بتعليل وتبرير الصرف، والمساهمة في جعل هذا التمويل العمومي يفضي إلى تأهيل عمل الأحزاب وتمتين قدراتها التأطيرية والإشعاعية والاقتراحية وسط المجتمع والناس.
من المؤكد، هناك أحزاب ليس لها وجود أصلا، ولا خطة عمل لديها أو أهداف أو برامج أو هياكل، وهذه معروفة، ويدرك الكل كيف أنشئت، ولم هي موجودة أصلا، وما هو عنوانها، ولكن الأكيد أيضا أن قوى سياسية أخرى لها الوجود والشرعية والتصورات والمصداقية والتاريخ، وهي لا تستطيع تغطية مصاريف أعمالها وأنشطتها، وصارت إكراهات الواقع الاجتماعي وشح الموارد المالية يكبل انطلاقتها…
ومن لا يمارس في الميدان، أو يكتفي بانتقاد الجميع وكل شيء، هو الذي يكتفي بالإطلاقية في الكلام، وينطلق من التبسيطية التي يجسدها القول بأن “ولاد عبد الواحد كلهم واحد”.
ليس المغرب استثناء في العالم، لنعتقد أنه يمكن تطوير الديمقراطية وتقوية مؤسساتها بدون أحزاب قوية وذات نظر ومصداقية، كما لا يمكن أن “نستورد” أحزاب من بلدان أخرى، ولا يمكن أن نقرأ واقع أحزابنا فقط انطلاقا من نقائصها واختلالاتها الذاتية والداخلية والتنظيمية، وإنما يجب أيضا استحضار مختلف مراحل الصراع السياسي في بلادنا طيلة عقود، والعديد من الممارسات والتجارب، وهي كلها عوامل موضوعية لها مسؤوليتها في صنع المآلات الراهنة.
إن التمويل العمومي لعمل الأحزاب يعتبر مشروعا بحكم المقتضى الدستوري، واهتداء بتجارب عديدة عبر العالم، ونتيجة اشتراطات الظروف الموضوعية لواقعنا الاجتماعي والسياسي الوطني، وجلالة الملك نفسه، سبق أن حث، منذ سنتين، على ضرورة الرفع من قيمة هذا التمويل، ولكن يجب بالفعل تأطير كامل هذه العملية بمنظومة قانونية ومحاسباتية تتطور أحكامها باستمرار، وذلك حتى لا يتحول هذا التمويل، الموجه لدعم وتعزيز الديمقراطية والمشاركة السياسية، إلى ريع أو تبذير للمال العام.
وفي نفس الوقت، لا يجب أن يتحول الحديث عن دعم وتمويل الأحزاب إلى باب آخر لضرب كل الأحزاب بشكل مطلق، وتبخيس عملها ودورها، وإلى استهداف العمل السياسي بشكل عام، والترويج للعدمية والسلبية الفجة.
بلادنا اليوم، وأكثر من أي وقت مضى، في حاجة إلى أحزاب وطنية جدية وقوية وتمتلك المصداقية والتجربة والرؤى والأفق، وأيضا ذات استقرار مادي وتنظيمي، وتستطيع الفعل في الميدان وسط شعبنا، وأيضا الدفاع عن المصالح الوطنية العليا لبلادنا.
وجود ممارسة حزبية وتمثيلية تقوم على الديمقراطية، وتحرص على التعددية والانفتاح، وتنبذ الإقصاء والهيمنة والانغلاق، وترتكز على قوى سياسية حقيقية لها الأفكار والمرجعيات ووضوح النظر، هذه مسؤولية الدولة والمجتمع، علاوة بالطبع على المسؤولية الذاتية للأحزاب ومناضلاتها ومناضليها، ولهذا يجب الإنصات لهذه القوى الحقيقية والجادة، وإشراكها، ودعمها، وبالتالي الانكباب الجماعي على تأهيل فضائنا السياسي الوطني ككل، وتطويره، وجعل السياسة في بلادنا اليوم تمارس بشكل مختلف، وبلا ابتذال أو تبخيس أو إنكار للبديهيات المتعارف عليها لدى كل الدول الديمقراطية في العالم.
< محتات الرقاص