مراكش نص روائي بامتياز، تسعى منذ أواخر القرن العشرين إلى إرساء نمط من الكتابة على غير العادة، تسعى لإحداث الصدمة لدى القارئ، وربما تسعى لاستفزاز الزائر أكثر من المقيم لما تشهده من تحولات سريعة في كتابة متن روايتها؛ مدينة سبعة رجال أمازيغية أصيلة ومسلمة بامتياز، تتحول يوميا إلى كتابة منفلتة عن أصولها وامتيازاتها، عن قواعدها وأعرافها، وهي في طريقها انبناء جمالياتها الروائية أنانية لا تتقيد بالقواعد الفنية المتداول في قضايا القص الوامض ولا بالشروط التقنية، هي انزياح عن المألوف لا يراها إلا عاشقي «الخطيئة الأولى»، كل شيء بمراكش مقدس حتى كعبها العالي بجامع الكتبية ولباسها الداخلي بالفضاءات السياحية والرياضات المعتقة، فهي تبعثر الحروف شمالا وجنوبا بدون وعي وبكل حب، تتلقى بلاغة الإبداع وهي واثقة من رسم تجربتها في المدن الآمنة والذكية والنظيفة وكذا السهلة الولوج، شروط الحكي الأربعة هذه، بها تؤثث جمالها وصفحاتها، عروسا تحت ظلال السرديات تمتد من داخل الأسوار المحتشمة إلى خارجها بجليز الساخنة، أسلوبها في العرض يعبر بقوة، وبدون تأخير عن انطباعات « الخطيئة الأولى « للروائي الإيطالي الشهير (ألبرتو مورافيا)، وكذا رحلات التيه في مدينة النخيل والسفر البعيد بلا رجعة للواحات، والشروع على أنقاضها في بناء أحياء الحديد والأسمنت، وتدفّق الحالمين بالمال واللذة والرغبة في السهر، حيث يبدو البطل في ربيعها وصيفها وكذا خريفها، وهي تتعرى له بشخوصها وأمكنتها وأحداثها وأزمنتها وبكل مقوماتها الروائية، لترتكب السياحة بزهو مغرور، ولا تريد أحدا أن يراها، أو يتلصص على مفاتنها إنها امرأة وليس سوى امرأة، رهيبة وروحانية، سمراء، طويلة ما تبقى لها من سيقان، ترتدي ثوب سباحة من قطعتين، ولها شامات عريقة في المدينة القديمة، مفتوحة بذلك على كل الدلالات والمعاني، تستوعب كل المناهج النقدية، وتستميل كافة أدوات الطيف التحليلية لفك مستغلقاتها وإثارة ما خلف أسوارها من مكنونات، وما يختبئ بـ « شواطئها « وخصلات شوارعها، ورغم تفكيك بنياتها المعمارية يظل سحرها عصيا على النقاد والروائيين والشعراء والفنانين، هي صوت ينبض بحيوية طاغية، وتمنح الخلوة لاحتضان ألوان الشراب والطعام وإقامة الحفلات وآخر الصيحات، هي جادة لكل سالك، وعون لكل فضفاض أساه الزمان.
في مثل مدينة مراكش، لا شك يزورك النتاج الأدبي للكاتب الطنجي محمد شكري، والشاعر الاستثنائي عبد الله زريقة من خلال ديوانه: « تفاحة المثلث» ، ولا شيء في قلب مراكش حسب بعض النساك يستحق الاستمتاع بأشعار سعدي الشيرازي، فهي تقاسم الليل والنهار، وتولجهما في بعضهما متى وأنى شاءت بحراسة أمنية مشددة، وروحانية وقورة، من أجل بناء لحظات القسوة والجنون تجاه نفسها في الأولى، وتجاه الآخرين في الثانية، فهي معين لا ينضب، تعطي لمن يشاء بلا حساب، هي نخيل يمزقه الإسمنت بضراوة ووحشية، يقتلعه المنعش كل يوم بين الساقية و» الخطارة «، ويسوّيه أرضا بلا «نوح باك ولا ترنم شاد»، لغتها جاهزة ومرنة تسعف كل الشخوص من مختلف الجنسيات للإنزال فيها، فهي فن ملحمي سرعان ما أهّلته المدنيّة والقابلية للاستيعاب ليصير فنا روائيا أنانيا قائم الذات، تنجذب إليه مختلف الأصوات ويمتد للتناص مع أكثر من خطاب نسائي أو ذكوري، لا يهم. ما دام الإبداع بمراكش في الوقت الحاضر عاما، لا جنس له ولا يقع على عمر محدد، فهو مغامرة، ومعادلة للمفارقة المتوترة بين القائم المعيش من الروايات والأجناس الأدبية، الممكن تشكيل جدّتها في القرن الحادي والعشرين.
بقلم: عبد اللطيف سندباد