“استقلالية القرار السياسي والانتصار للإصلاح الحازم والبحث عن القواسم المشتركة مدخل إعادة إمساك القوى الديمقراطية بزمام المبادرة في المشهد الوطني”.
أنتم مدركون، بحكم تاريخكم الكفاحي من أجل الديمقراطية وموقعكم الاعتباري في المشهد الوطني وتبنيكم لقضايا شعبنا، أنتم مدركون، لا ريب، لصعوبة المرحلة التي تجتازها البلاد منذ أن اختلت التوازنات لصالح مثبطات الإصلاح، ضدا على النفس الديمقراطي الذي راهنت عليه القوى الحية منذ 1999 ولربما قبل ذلك بقليل.
القوى الديمقراطية، ومعها الإدراك الفطري للجماهير، تجد نفسها، بعد الخروج عن المنهجية الديمقراطية عام 2002، واعتماد التكنوقراط، والمقاربة الأمنية في تناول المعضلات، والتعاطي مع المخاطر بالتكتيك بدل الاستراتيجيات واقتباس البدائل من زمن أجمعنا على أنه ولى، دون رجعة، بعد خيار العدالة الانتقالية والإنصاف والمصالحة وبعد عقود من التضحيات، القوى الديمقراطية ومعها الإدراك الفطري للجماهير، تجد نفسها في مواجهة تحديين مركزيين.
التحدي الأول مرتبط بالتوزيع العادل للسلطة والثروة رغم تقدم دستور 2011 وكل ما أنجز من أوراش ومبادرات. خطاب وممارسات الفاعلين السياسيين، تجعلنا أقرب إلى التراجعات منها إلى المكتسبات في مجال توزيع السلطة والصلاحيات بين المؤسسات الدستورية، ناهيكم عن أن فئات عريضة من شعبنا تعيش الفقر والضنك، والطبقة الوسطى تهوي بثقل الضرائب وتكاليف التعليم والصحة والعيش، ورأس المال الوطني يقلق يوما بعد يوم. وما عزوف مواطنينا عن المشاركة في الاستحقاقات، بدء من خريف 2007، وارتفاع منسوب وكيفيات الاحتجاج، من سيدي إفني، وصفرو، وتازة، وصولا إلى انتفاضتي الريف وجرادة، إلا تمظهر لأزمة ثقة عميقة بين الناس والمؤسسات، وتجل لعدم أولوية قضية العدالة الاجتماعية في جدول أعمال انتقالنا الديمقراطي.
التحدي الثاني له علاقة بالنزال مع الإسلام السياسي الذي اعتقدنا أن وجوده، بين ظهرانينا، يفتح إمكانيات الكتلة التاريخية والجبهة العريضة والاستئناس بتجربة تحالف الكنيسة واليسار في أمريكا اللاتينية. إلا أنه خيب الظن، وبدا واضحا أنه مستعد للتنازل عن الانتقال نحو الديمقراطية من أجل البقاء في مناطق النفوذ، ومصر على نصب العداء للدولة المدنية، وتكفير الآخر، والسطو على المشترك دون وجه حق، إضافة إلى ما أبان عنه، وهو يدبر الشأن العام، من رعونة في إدارة التحالفات ونكث للتعهدات، ونجابة في تنفيذ توصيات انسحاب الدولة من المجال الاجتماعي، وقدرة على تضليل الناس بدعوى أن من كان من المريدين لهذا التوجه فهو مع الإصلاح ومن خالف هذا النزوع فهو ضد الإصلاح، ناهيكم عن تكشيره لوجه قاتم كلما تعلق الأمر بمجال التعدد والاختلاف والحريات.
إنه لمن غير المستساغ، ودون أي تحامل، أن تظفر قوى لم تقدم أي شيء للمشروع الديمقراطي ولم تجتهد في مجال التعاقدات في سبيله، بل وكانت عبئا عليه، ولا أثر لها في الصراع الضاري الذي جرى من أجل قضايا شعبنا في الحرية والإنصاف والحق في الكلام والعيش الكريم، ولا تفوق سياسي أو تاريخي لها، أن تظفر بهكذا تعاطف شعبي، وحاضنة انتخابية ووجود في الأحياء والمؤسسات.
أكيد أن أزمة حركات التحرر الوطني والفكر الاشتراكي والموروث الثقافي وابتعاد الديمقراطيين عن فضاءات الممارسة الاجتماعية وأخطاء التقدير والممارسة، تفسر تحول رهان جزء واسع من الناخبين لصالح من يوظفون الدين في السياسة، إلا أن الأساسي في الأمر أن مواطنينا كانوا دائما يلتفون حول القوى التقدمية حين كانت تتبنى قضاياهم بالجوارح وبالاقتراح وبالكفاح منذ الاتحاد الوطني للقوات الشعبية والتحرر والاشتراكية، حتى لا نعود بعيدا في التاريخ.
الديمقراطيون، أفرادا وجماعات، أحزابا ونقابات، جمعيات حقوقية ونسائية ومنظمات قرب وشبيبات، مطالبون بمراجعة الذات والمسلمات والرؤى والتصورات على ضوء ما حصل في البلاد والعالم من متغيرات، وبمواجهة قضايا الديمقراطية الحقيقية والتنمية المستدامة وإنتاج الثروة والتوزيع العادل للخيرات ومعضلات التعليم والصحة والشغل والحريات وصيانة الوحدة الوطنية والترابية للبلاد والتصدي للريع والنهب والفساد وإعادة صناعة الأمل وبناء الثقة بين السياسة والناس.
الديمقراطيون، أفرادا وجماعات، أحزابا ونقابات، جمعيات حقوقية ونسائية ومنظمات قرب وشبيبات، يستطيعون، إن أرادوا وثابروا، إعادة الإمساك بزمام المبادرة والانتصار لفكرة الإصلاح الحازم والتأثير في موازين قوى النضال الديمقراطي، نصرة لقضايا شعبنا والقضايا العادلة للشعوب من حولنا.
الديمقراطيون، أفرادا وجماعات، أحزابا ونقابات، جمعيات حقوقية ونسائية ومنظمات قرب وشبيبات، ملزمون، أكثر من أي وقت مضى، بالوضوح والصرامة في مسألة استقلالية القرار السياسي وبالجلوس للتنقيب عن القواسم المشتركة وترجمتها إلى صيغ للعمل الوحدوي والبحث في الخلافات وتبديدها وتحويلها إلى أرضيات تعقد حولها التحالفات.
ما يتفق حوله، الآن، في تقييم المرحلة واستشراف الآفاق، تشتق منه مهام مشتركة للمرحلة وخارطة طريق للمدى المنظور، وما يختلف فيه يحال إلى النقاش الفكري والسياسي الرصين، بجدية وتواضع ونبذ للإطلاقية الخرقاء.
تذكروا ما قدمته اتفاقات الوطنيين لاستقلال المغرب وما أسدته الكتلة الديمقراطية (1992) ومعها الزخم الاجتماعي والحقوقي، لنعبر خطوات في الاتجاه الديمقراطي، وتأكدوا أن سيرورة التنسيق ستفضي، لا محالة، إلى وضع متقدم على صعيد التحالفات.
بلادنا تنتظر، وشعبنا يترقب، والتغيير لا يمكن أن يكون إلا ديمقراطيا، والنزال مع الفقر والحيف واليأس وقوى النكوص يعنينا نحن الديمقراطيين قبل أن يعني غيرنا، أيا كان.
لهذه الأسباب، وغيرها، أنا ومعي أجيال بأكملها، نناشدكم ونرجوكم وندعوكم لتتحملوا مسؤولياتكم في رأب صدع الديمقراطيين، واستعادة عافية الصف الديمقراطي كقطب رحى، لا مندوحة عنه، من أجل انتقال حقيقي نحو الديمقراطية، بكل معانيها ومضامينها وبتوافق كامل مع المؤسسة الملكية، انتقال، بلادنا جديرة به، وشعبنا يتطلع إليه، وأنتم لطالما قدمتم من أجله التضحيات.
وفي انتظار أن تبادروا إلى ما من شأنه تمكين قيادات وكوادر مكونات الصف الديمقراطي والحركة النقابية والنسيج الجمعوي والحقوقي من مقاربة مشتركة للمرحلة والمستقبل، تستند إلى المعرفة والعلم والجماهير وتجهز على اليأس وتبعث العنفوان، تأكدوا من تقديرنا ومودتنا ورهان الوطن والمواطنين والتاريخ عليكم.
> بقلم: خالد فضيل