رواية “رحلة العلقم” للكاتب المغربي عبدالله مرجان

صرخة المعطوبين في وجه مجتمع متهالك

قبل تناول أحداث وشخصيات المتن السردي لرواية “رحلة العلقم”  لا بد أن نتطرق  لعلاقة العنوان بهذا المتن ، دلالته وأهميته في الخطاب الروائي.

فلا شك أن العنوان يمثل  أهمية بالغة في الخطاب الروائي لأنه عتبة لولوج النص حسب الناقد الفرنسي رولان لارت، كما أنه أول مفتاح يقف عليه القارئ قبل الولوج إلى عوالم النص، واقتحام فضائه السردي وسبر أغواره، فهو يستفز أفق انتظاره، ويحثه على الغوص في بنيته، لاستنباط صلتها الدلالية بالمتن الروائي، وإيحائها بما يود المؤلف الإفصاح عنه. ولا شك أن اختيار العنوان ليس أمرا هينا، فالمؤلف يتوخى من خلاله التأثير في القارئ وجذبه إلى إبداعه، وهذا يفيد أن صياغة العنوان جزء من الكتابة الفنية لما له من أهمية على المستوى الإعلامي والفكري والجمالي، ونظرا إلى كل هذه الاعتبارات فإن العنوان ذو أهمية خاصة بالنسبة للمؤلف والمتلقي على السواء؛ لأنه جماع النص وملخصه.  وعلاقة العنوان بالنص الروائي مشوبة بالتفاعل والانسجام، فهو تمطيط له وتلخيص لمضمونه وإضاءة لبؤرته،كما أن تفسيره وتذوق جماله،وصيغ أساليبه مرتبط بمعانيه ضمن السياق الكلي للرواية ،لكن بعض العناوين الروائية لا تميط اللثام عن متون نصوصها بوضوح، بل تتسم بالإبهام والغموض، وتفرض على المتلقي الانسياق وراء أبعادها الدلالية الخفية، واعتقد أن  رواية “رحلة العلقم”  تلامس هذا المذهب الفني، لأن عنوانها ينطوي على دلالة مجازية تُجاوِز المعنى اللغوي الدال على الانتقال وتراوغ أيضا ما يسمى بأدب الرحلات،كما أن دلالة “العلقم” المضاف إلى لفظة”رحلة” لا تحيل على شجر الحنظل وكل ما هو مر ، بل  لها بعد إيحائي يفيد مرارة الحياة التي ذاقها الراوي البطل “طويرة”، الأمر الذي أسهم في إضفاء الغرابة على العنوان، والتمويه على القارئ لكسر أفقه، وإثارة شهيته لقراءة الرواية الحبلى بألفاظ الرحلة الرمزية والحقيقية، ومعاني العلقم المجازية.

استهل الراوي حكايته في الفصل الأول من الرواية  “القدر”  بما يدل على أنه عَلْقَمَ أولَ رحلةٍ له في قوله: “لاحت فوق غصون أشجار التين عصافير، وبدأت تعد حناجرها لغناء معزوفاتها، تنبئ بيوم شاق وطويل، شرعت المواشي في انتظام تتأهب لرحلتها المتكررة بحثا عن غذائها” الصفحة 5

 فهذا اليوم الشاق لفح حره حياة طويرة، فأدمن الرحلة باحثا عن الشفاء والراحة “بينما هما يركضان خلف القطيع كان طويرة الذي انطلق كالسهم لا يدر ي ماذا يخبئه له الزمن قد انزلق من أعلى الجبل…سقوط دمر مسار الفتى المغامر” الصفحة 6

وتبدأ رحلة الراوي العلقمية في الحياة وسيشاركه فيها والده “في مقتبل خريف عاصف سيباشر الفتى رحلة المعاناة والألم الممزوجة بالأمل في الشفاء، معاناة أب مكلوم أصيب في فلذة كبده”ص7

وأول رحلة بمعناها الحقيقي كانت صوب مدينة مازغان، لكن أمل الأب خاب ف”حمل الفتى على كتفه في اتجاه المحطة… ليستقل حافلة اعريبات في رحلة عودة إلى مسقط الرأس”ص8، لكن طويرة باح بهوسه بالشفاء وهو في الطريق. يقول”واصل الأب والفتى رحلة البحث عن الكنز المفقود، رحلة الألم والأمل المأمول، الرحلة على مشارف الدوار، وفي الانتظار الابن الأكبر مصحوبا بعربته يتكلف بإتمام الرحلة إلى قرية بوسعيدة “ص9

 ويكشف الراوي عن إيمان والده بما هو غيبي، عندما يروي عنه قوله له”غدا نمشيو لسيدي مسعود بن حسين، يردد الأب، قبل أن يشرع في رحلة تعقب الأضرحة”ص10

 لم يظفر الأب ببركة الأولياء فشد الرحال إلى المستشفى بمدينة الدار البيضاء، مكث فيه البطل طويلا دون علاج فغضب أبوه قائلا: “ما كاين لا طبيب لا هم يحزنون، الطبيب هو الله نوض أولدي نرجعو للبلاد، فرح الفتى، حمل الأب الابن من جديد… قادته رحلة العودة هذه المرة إلى تعقب إحدى قريباته”ص11 

كابد طويرة وهو ملقى في البيت يتجرع مرارة رحلة من علقم، بل كابر للعودة إلى الحياة”لاح بصيص أمل حين تلمس الفتى حائط البيت، ووقف وصاح بصوت مبحوح أماه أماه لقد وقفت لقد وقفت” ص12

 وهكذا عاد الراوي إلى دراسته إلا أنه بعد تخرجه من الجامعة أجبر على خوض رحلة علقمية مريرة، فقصد العاصمة باحثا عن شغل يقيه شظف العيش، لكنه قاسى الأمرين قبل نيله مراده”أرتب لرحلة جديدة للبحث عن بصيص أمل من شأنه أن يزيل هما جاثما على صدري….. أخذ مني العياء مأخذه، ولجت غرفتي، نمت لعلني أنسى رحلة الأسى”.

 هذه  الرحلة المأساوية لم تدم كثيرا، لأن بطل الرواية حقق غايته وصار موظفا لكنه لم يتنكر لتجربة العطالة “استفدت كثيرا من رحلتي في البحث عن عمل، تعلمت دروسا وتشبعت بأفكار”ص14، وقد يتوهم القارئ أن هذا النص يوحي بحل عقدة الرواية لكن الراوي سرعان ما يصدمه، لما يوغل في الحديث عن رحلة من علقم لا شفاء منها أبدا، لارتباطها بموت أبيه الذي باح بمكنونه وهو يحتضر”قال بصوت متقطع: إننا لا محالة راحلون”ص15، وهو ما أكده طويرة في قوله: “اليوم تغير مكان إقامته رحل على وقع صدمة ظلت تمزق الأحشاء”ص16، وكأنه يقر أن معاناته القاسية في الحياة منذ طفولته لم تنته بعد، لأن وفاة رفيق هذه الرحلة صوب الأضرحة والمستشفى يوحي باستمرار رحلته العلقمية، لكن المتلقي يفاجأ بتغيير مسار السرد، وإغواء المتلقي بدلالة أخرى  لعنوان الرواية تشوش عليه أفق انتظاره، فيعتقد تارة أن العنوان يوحي برحلة الراوي المريرة في حياته، ثم يجد أمامه نصوصا تدل على رحلة والده إلى الموت، فلا يدري هل المراد رحلة الحياة أو الموت أو هما معا ، وما يؤكد هذا الغموض حديث طويرة عن أبيه الميت “نم قرير العين، فالعيال بخير وأنا في الدرب سائر التحف رضاك ،أتابع الرحلة وأتشبث بالأمل”ص17، وقوله عنه” رحل الرجل الذي طالما كان سندا لقرية بوسعيدة”ص18

 هذا الغموض يرغم المتلقي على إتمام قراءة الرواية بتأن، كي يهتدي إلى دلالة العنوان المختبئة في زوايا السرد، لأن الراوي يتلاعب به حتى لا يقبض عليها، ولا يكاد يبوح له بهذا السر،خاصة عندما يتخلى عن ضمير المتكلم في نهاية الرواية، متعمدا الجنوح إلى ضمير الغائب، ليختم الحكي بكلمات توحي بنجاته من رحلة العلقم التي أودت بأبيه.يقول”صار الآن يقف على الضفة الأخرى، ينعم بحياة أقل قساوة عن السابق….وهو يستكين بعيدا عن الألم والجرح، بعيدا عن الأب الذي تحمل ما يكفي، وأعياه الزمن، رحل وفي القلب غصة، رحل دون أن يرى بأم عينيه فلذة كبده يتجاوز الحدود ويصل حاملا رسائل عديدة، وباقة ورد” ص19 

 إن اختيار عنوان رواية “رحلة العلقم”ليس اعتباطا، فهو ينهض بدلالات لها ارتباط وثيق بالمتن السردي، ولا تبوح بأسرارها إلا بعد الإيغال في القراءة، والوقوف على آخر كلمة في هذه الرواية الممتعة التي تراود المتلقي بعنوان مخادع، لإغوائه بقراءتها والغوص في عالمها الفني.

  وعند ملامسة فصول الرواية  والوقوف بأحداثها وشخوصها يستوقفك الأنين والآهات من خلال  سرد غاية في النسج والتسلسل، يحمل رسائل تنم عن سلوك شاذ في مجتمع سافل يتخذ من مآسي الأبرياء تجارة مربحة، هذه الأفعال التي عاشها البطل “طويرة” وكان طرفا فيها، وشكلت أغلب فصول العمل الروائي توثيقا  لهذه الأعمال الدنيئة الصادرة عن فئة مجتمعية  يستحوذ عليها الجشع والطمع ، هذا السلوك يظهر بوضوح في فصل “بركة الأولياء”.

 يتوزع المتن السردي عبر فصول ارتبطت كل أحداثها بالشخصية الرئيسية” طويرة ” ففي مستهل الرواية وفي فصل” القدر ” يبدأ الروائي  بالحديث عن شخصية “طويرة” الذي انطلق من عالم تطغى عليه الأمية والفقر بحثا عن أفق أرحب ، إذ سيمر من مطبات شكلت الحافز في تجاوز الصعاب وتحدي الحواجز.

جراح لا تنتهي:

يتناول هذا الفصل قصة البطل “طويرة”مع التحول الدراماتيكي في حياته، وهو فتى في مقتبل العمر وجد نفسه وبشكل طارئ  حبيس جدران بيت متشقق ، بعيدا عن أترابه ، مكبل القدمين بلا حيوية ولانشاط…يجسد  هذا الفصل أيضا جراح الوالدين  جراء الحادث الذي أصاب فلذة كبدهم  ،ويلخص اثر الحزن والحسرة التي تركتها آلام ومعاناته في نفسهما “دم جرحي،كل أوجاعي، قلب مثقوب،جسدي منهمك “ص 27

بركة الوالي:

تناول السارد  في هذه المحطة الروائية الحديث عن رحلة البطل طويرة  الماراطونية والمتعبة بين الأضرحة وأولياء الله الصالحين رفقة والده المرحوم محمد ، والتي انطلقت  من سيدي مسعود بن احسين وانتهت بمولاي الطاهر القاسمي ، مرورا بسيدي محمد الظاهر ،حيث يحكي عن وقائع وأحداث غريبة عاشها البطل وسجل فصولها عن قرب ،من خبث وجشع وجهل .هي رحلة  البحث عن حلم الشفاء بين سواري تلك الأضرحة، انتهت على ايقاع الألم كما بدأت عليه.

العم بوشعيب:

يعود الراوي  في هذا الفصل ليحدثنا عن  رحلة ثانية لا تقل شقاء وقساوة عن الأولى _بعد ان اقترحها العم بوشعيب على الأخ  محمد والد البطل بحثا عن الشفاء الضائع ، وهذه المرة كانت الوجهة صوب مدينة الدار البيضاء عند الدكتور “الزيتوني” بعدما خاب ظنه في بركة  الاضرحة …رحلة كانت بدون جدوى ،أخذت اكثر ما أعطت للفتى والوالد.

عودة:

يرصد الكاتب تفاصيل عودة بطل الرواية  رفقة الاب سي محمد نحو مسقط الرأس بعد رحلة خائبة بين مستشفيات يدير شؤونها  ذئاب مقنعة بأجساد آدمية، تلهث فقط  وراء كسب المال..

يجذبه المتن الروائي للحديث عن بعض القصص الثانوية والتي تتداخل مع الحكاية الرئيسة، تتجسد في مرض العمة” فاطنة” ، وكذا القصة الغرامية لمعلم مع تلميذته الحسناء.

الأمل:

يطالعنا الكاتب عن رغبة  “طويرة”  الملحة وتمسكه بالأمل  وهو سلاحه الوحيد لمتابعة دراسته التي انقطع عنها قرابة السنة، الأمل الذي ظل يتوق إليه رغم الإكراهات، هي محطة شكلت منعرجا حقيقيا في حياة البطل “طويرة”.

وبعد ان قضى خمس سنوات من المعاناة بالمدرسة الابتدائية “بعين تالمست ” لاح بصيص  أمل واشراقة نحو غد أفضل ،حين كون طويرة علاقات جديدة ، في مؤسسات لا تؤمن بالمستحيل ، صار يراوده حلم نسيان الماضي ، وفتح صفحة جديدة مفعمة بأمل يقوده إلى طريق آمن بعيدا عن الأشواك التي ادمت قدميه وحفرت ندوبا في القلب.

فضول:

يكمن بيت قصيد هذا الفصل في حديث الكاتب عن بعض المشاهد العالقة في الأذهان، قصص تتداخل فيما بينها لتنسج لنا قصة متكاملة في ابهى حلة .كانت البداية عن أستاذ اللغة العربية الذي ترك انطباعا جميلا على حياة ونفسية الكاتب، إذ اعتبره القدوة الحسنة بالنظر إلى مستواه العلمي الرفيع وكذا حسن اخلاقه النبيلة ….ينقلنا عبر حبكة سردية متناسقة لقصة ثانية تلخص مشهدا مميزا .طالما عهدناه بسيدي مسعود _رغم تلاشيه نسبيا مع الاسف_ ،حيث الحلقة تلوح في الأفق من بعيد تسر الزائرين لسيدي مسعود بن احساين…تمة “ولد البوهالي” مروض الأفاعي وآكل الصبار يدوس على الزجاج بأقدام حافية من أجل درهمات يأمن بهم قوت عشائه.لكن سرعنا ما ينقلنا إلى مشهد روائي ثالث بطله البيدوري وصديقه المعاشي، ثمة الصداقة الحقة والوفاء الأبدي، يروي قصة جريئة مضحكة عن الخليلين ،بعد اقتحامهما لخلوة المجانين بسيدي مسعود، إذ سرعان ما دخل طويرة في سجال مع أحمق يقبع داخل حفرة مقززة، فأرسل حجارة  قسمت حاجب “طويرة” إلى  نصفين.

وعموما فرواية “رحلة العلقم” صرخة المعطوبين في وجه مجتمع متهالك، نكّار للجهد، ورحلة تحدٍّ مستحيلة في طريق وعر متشابك المتاريس، موغل في التيه، ودرس بليغ لأجيال المستقبل، يستحق أن يدرس، بالنظر إلى روح المغامرة والإصرار المُستضمرين في روح “طويرة” المهيض الجناح، الذي لم يثنه جرحه وضعف قوته الجسمية على مواصلة صعوده التلال والجبال بحثا عن ضوء شمس، ولم يحل بينه وبين تحقيق أحلامه ومطامح أسرته عائق، متشبثا بسند العقل والذكاء والمعرفة، وكأنه يصرخ في القوم قائلا: إن العبرة بالفكر والعلم لا بالجسد والقوة البدنية. إنها رواية السيكولوجيا المكثفة التي تغوص في أعماق الشخوص حافرة في ندوبهم الخفية، وبصيغة أخرى، هي رواية “السلوك” بحكم أنها تسعى إلى إعادة صياغة المجتمع من حيث نقض عاداته وممارساته وأفكار عناصره، وعلاقاته المتشابكة المؤسسة على اللا توازن والاستغلال والانتقائية.

بقلم: المهدي بوكرمة 

الوسوم
Top