عاش المغرب، نهاية أربعينات القرن الماضي، وبداية خمسينياته، أحداثا دموية واسعة النطاق كرد فعل على إقدام المستعمر الفرنسي على نفي الملك الراحل محمد الخامس خارج الوطن. خلال هذه الفترة العصيبة، ومن رحم الغليان الشعبي، والانتفاضات العارمة التي واجهتها الإدارة الاستعمارية الفرنسية بالقمع، تأسست مجموعة من التنظيمات السرية التي حاولت الرد على هذا النهج القمعي، كان أبرزها على الإطلاق منظمة “الهلال الأسود” التي اعتمدت أساليب شكلت ضغطا على المستعمر وأذنابه من الخونة.
من داخل هذه المنظمة، برزت أسماء سيظل تاريخها محفورا في ذاكرة المقاومة، سواء منها تلم التي تعرضت للاعتقال أو الاغتيال أو تلك التي كتب لها النجاة لتروي للأجيال أحداثا قوية مفعمة بالوطنية والغيرة على هذا الوطن.
المقاوم عبد القادر بهيج من هؤلاء المقاومين الذين يكتب التاريخ نشاطهم ضمن التنظيم السري”الهلال الأسود”، والذي رغم تقدمه في السن استقبل بيان اليوم ليروي ما علق في ذاكرته من وقائع وأحداث نقدمها لقرائنا فيما يلي:
> إعداد: محمد توفيق أمزيان
واقعة “الملاح” واعتقالنا بسجن “اغبيلة”
بعد توالي العمليات الفدائية، وتفجير القنابل في عدد من المخبرين ومفتشي الشرطة وأذناب الاحتلال الفرنسي، أصبح الجو مكهربا، حيث توالت العمليات بكثرة، وكثرة القنابل التي نفجرها والتي كان يصنعها لنا شخص يقيم بـدرب الكبير، موازاة مع ذلك أطلقت الإدارة الاستعمارية عيونها وشددت مراقبتها لوقف التفجيرات.
في أحد الأيام، اجتمعنا كالعادة وناقشنا المهام التي يجب أن نتكلف بها، وكانت أهمها تنفيذ الإضراب بسوق “الملاح” بالمدينة العتيقة، لكن مع استمرار رفض بعض التجار وتلكؤهم في تنفيذ هذا الإضراب بإيعاز من أذناب المحتل الفرنسي، سنقرر تفجير السوق بأكمله من خلال وضع أربعة قنابل.
وضعنا الخطة، وكنت من المعنيين بتنفيذها، اتفقنا على أن يكون الانفجار يوم الجمعة على الساعة العاشرة صباحا، على أن تنفذ العمليات بشكل دقيق وفي لحظة واحدة، تجنبا لأي خطأ من شأنه أن يربك المهمة أو يفشلها، وبالفعل تواصلنا مع صديقنا بدرب الكبير الذي كما قلت كان خبيرا في صناعة المتفجرات والقنابل، بما فيها القنبلة الموقوتة، وكنت من بين المكلفين بالتواصل معه ونقل القنابل من منزله بالحي المذكور للتنظيم السري، إذ كانت هناك دائما خطط موضوعة لنقل هذه المتفجرات بعيدا عن أعين شرطة المحتل والخونة وأذناب الاستعمار.
أعد صديقنا القنابل في اليوم الموعود، وجاءت ساعة الصفر التي يجب أن نتحرك فيها للسوق لتفجيره، بيد أننا كنا قد اتفقنا كما ذكرت سابقا على تفجيرها في الساعة العاشرة، وأن نشعل الفتيل في لحظة واحدة ونخرج من السوق لينفجر في محلاته، لكن واحد من رفاقنا جاء قبل الموعد بساعة وأراد زرع القنبلة في مكانها المحدد سلفا حسب الخطة.
كان رفيقنا يضع قنبلته في سلة للخضروات، وما إن وصل إلى المكان المعلوم وبدأ في إجراءات زرع القنبلة، حتى أحاط به التجار من كل اتجاه، ليتم القبض عليه وتسليمه لقسم الشرطة التابع للإدارة الاستعمارية، وبسبب هذا التسرع في الخطة وعدم إحكام زراعة القنبلة، تراجعنا نحن عن التنفيذ خصوصا مع تشديد المراقبة وشيوع الخبر وسط المخبرين والتجار. بعد اعتقال رفيقنا واقتياده لمقر الشرطة، ظل هناك لثلاثة أيام تحت وطأة التنكيل والتعذيب للاعتراف بشركائه بهذا الفعل، أما عني أنا فكنت لا أبالي، أي كأنني لم أقم بأي فعل، وبقيت هادئا طيلة تلك المدة، لكن صديقنا كان قد أعطى اسم المشاركين ومواقعهم.
بعد انقضاء ثلاثة أيام، وبينما كنت مستلقيا في مكاني ببيت العائلة هنا بدرب الشرفا، ضربت الإدارة الاستعمارية طوقا بدربنا وبدرب القاهرة الذي خلفنا، ثم في بقية الأزقة المجاورة قبل أن يطرقوا علينا باب المنزل، فتح أبي الباب ودخلوا علي، كنت هادئا ولا أبدي أي تخوف.
لم أبد أية مقاومة تجاه العناصر العسكرية، بل استسلمت لهم ونفذت كل ما كانوا يطلبونه مني، وأذكر أنه في لحظة اعتقالي وحينما رآني أحد أعوان المستعمر قال بتعجب بالغ لزملائه “كيف لهذا الصغير أن يقوم بمثل هذه العمليات..؟”، إذ لم يستسغ كيف لطفل في 16 من عمره أن يكون من الضالعين لأساسيين في واقعة “الملاح”.
تم ترحلينا بخمسة إلى السجن الشهير “اغبيلة”، اثنان منا اعتقلا بمدينة مكناس، بعدما كانا قد نفذا عملية في حق أحد الأشخاص الموالين للمستعمر في قيسارية الهديم بذات المدينة، حيث تم جمعنا في أحد أقسام الشرطة ورحلنا جماعة إلى السجن المذكور سلفا، والذي سنذوق فيه مرارة التعذيب لأسابيع قبل أن نفر منه في وقت لاحق..