صفحات من تاريخ منظمة الهلال الأسود يرويها المقاوم عبد القادر بهيج

عاش المغرب، نهاية أربعينات القرن الماضي، وبداية خمسينياته، أحداثا دموية واسعة النطاق كرد فعل على إقدام المستعمر الفرنسي على نفي الملك الراحل محمد الخامس خارج الوطن. خلال هذه الفترة العصيبة، ومن رحم الغليان الشعبي، والانتفاضات العارمة التي واجهتها الإدارة الاستعمارية الفرنسية بالقمع، تأسست مجموعة من التنظيمات السرية التي حاولت الرد على هذا النهج القمعي، كان أبرزها على الإطلاق منظمة “الهلال الأسود” التي اعتمدت أساليب شكلت ضغطا على المستعمر وأذنابه من الخونة.
من داخل هذه المنظمة، برزت أسماء سيظل تاريخها محفورا في ذاكرة المقاومة، سواء منها تلم التي تعرضت للاعتقال أو الاغتيال أو تلك التي كتب لها النجاة لتروي للأجيال أحداثا قوية مفعمة بالوطنية والغيرة على هذا الوطن.
المقاوم عبد القادر بهيج من هؤلاء المقاومين الذين يكتب التاريخ نشاطهم ضمن التنظيم السري”الهلال الأسود”، والذي رغم تقدمه في السن استقبل بيان اليوم ليروي ما علق في ذاكرته من وقائع وأحداث نقدمها لقرائنا فيما يلي:

الحلقة العاشرة

مكيدة الاعتقال والدعاية الكاذبة

استمر مسلسل التضييق علينا في الهلال الأسود من طرف مجموعات المقاومين التي أضحت تتصارع فيما بينها بعد الاستقلال، والتي كان وراءها المقاومون الذي انسجموا مع السلطة وسيطروا على العديد من الأجهزة.
ومع استمرار رفضنا لوضع السلاح، ازدادت حدة التضييق، إلى أن غادرت إلى جانب بعض رفاقي مدينة الدارالبيضاء نحو القنيطرة مجددا، حيث هناك ما يزال مكان اجتماعنا موجودا والجميع هناك، بالإضافة إلى أن معظم أسلحتنا كانت هناك أيضا.
توالت أخبار تصفية الرفاق من كل مكان، وحكايات الخطف، وأمام هذا الوضع سيتم عرض الصلح علينا من طرف أصدقاء من المقاومين، الذين استدعونا إلى بيت لهم نواحي القنيطرة للحديث عن مستقبل المقاومة وعرض المصالحة والتباحث كرفاق في المقاومة والتحرير.
بالفعل، قبلنا الدعوة أنا وأربعة من رفاقي في التنظيم، وذهبنا نحو البيت المعلوم، وكما هو مرتب، استقبلنا الأصدقاء بحفاوة وترحيب كبيرين، وجدنا طاولة وسط البيت مملوءة بما لذ وطاب من الأكل والمشروبات، فيما يطل على فناء البيت أربعة غرف كانت أبوابها مغلقة.
لم نكن ندري حين دخلنا هذا البيت أن هناك مؤامرة حيكت ضدنا لإيقاعنا نحن الفارين الذين لم ينجح الآخرون لا في تصفيتنا جسديا ولا في اختطافنا، وهكذا بكل ثقة دخلنا إلى البيت واستمر الترحيب بقدومنا، لكن مع استمرار ترديد عبارات “الترحيب” بشكل مبالغ فيه، استشعر بعض الرفاق أن هناك شيئا ما، لكنهم لم يتمكنوا من تحديده. غلبت شكي أو البعض فيما استمر البعض في توجسه، جلسنا إلى الطاولة، وما إن أحس ضيوفنا بأننا استوينا وأخذنا الأمان، حتى قال أحدهم “مرحبا”، “مرحبا”، “مرحبا” ثلاث مرات بتأن كبير، كأنما يتلو كلمة سر على أحدهم في الخلف. هذه الريبة ستجعل اثنان من زملائي الذين كانوا يرافقونني يهرولون خارجا بسرعة وهناك فروا في حال سبيلهم، أما نحن فصدمنا بخروج ثلة من “المقاومين” الاستقلاليين الذي كنا معهم في صراع مدججين بالأسلحة.
خرج العشرات من المسلحين من كل غرفة من الغرف الأربعة المطلة على فناء المنزل، ولم يعد هناك أي متسع للهروب أو القيام بأي ردة فعل لمجابهة هذا الهجوم الغادر، ما إن وقفت في مكاني جانب الطاولة، حتى سقطت بضربة قوية بمقبض سلاح “كروس” أعلى رأسي، ما زالت آثارها ترافقني إلى يومي هذا.. سقطت مضجرا في دمائي، لم يتم نقلي لا أنا لا صديقاي اللذين سقطا معي، جرى اعتقالنا من طرف من استدعانا وخصنا بحفاوة في الاستقبال، ونقلنا إلى مخفر للشرطة وسط القنيطرة..
ومزامنة مع اعتقالنا وإيداعنا بمخفر الشرطة، جرى إطلاق دعاية واسعة في المدينة بأنه تم في ذاك اليوم الإيقاع بخونة وأذناب الاستعمار ومتعاونين معه.
وما هي إلا لحظات عن إطلاق الدعاية حتى تجمهر المئات أمام مخفر الشرطة، وكنا ونحن داخل المخفر نستشعر “هزات” وجذبة كبيرة في الخارج، علمنا فيما بعد أنها لبراميل البنزين والحجارة وغيرها، التي كان يريد الناس أن يصبوها على أجسادنا وحرقنا.. أمام هذا التجمهر، جاء فريق خاص من الدرك والشرطة والجيش، وكان من ضمنهم أحرضان الذي كان وزيرا للدفاع آنذاك، وقدموا بحافلة خاصة لنقلنا إلى جانب معتقلين آخرين بالسجن المركزي بنفس المدينة، والذين كانوا أيضا من المقاومين ومن تنظيمات مختلفة، حيث سيتم نقلنا إلى وجهة أخرى خارج المدينة..
أوقف عناصر الجيش والشرطة والدرك تجمهر الناس وفسحوا لنا طريق للخروج من المخفر نحو الحافلة الواقفة خارجا، وأذكر أن اجتيازنا لتلك الأمتار القليلة كان مرعبا بالنظر للدعاية التي أطلقوها علينا، بحيث ترى رغبة الناس في قتلك وحرقك.
وأذكر أنه لثواني معدودة خلال اجتيازنا لتلك الأمتار القليلة بين المخفر والحافلة، كانت ملابسنا قد ابتلت، كمن وضعها في الماء، وذلك بسبب كميات البصق علينا من طرف المئات من الناس الذين تجمهروا بالمكان ليروا “الخونة” و”أذناب الاستعمار” كما زعمت “الدعاية” الكاذبة..

اعداد:محمد توفيق امزيان

Related posts

Top