قراءة في كتاب “كنت وسوف أكون” للفنانة المغربية رجاء بن مصباح

1 – قراءة في العتبة

بغض النظر عن جانب الشكل الذي يظهر فيه عنوان كتاب “كنت وسوف أكون” للفنانة المغربية رجاء بن مصباح، قويا في بروزه، بينما نجد اسم المؤلفة صغير الحجم في أسفل الغلاف دالا على نكران الذات على عكس ما هو وارد في أغلب الكتب التي تجد فيها اسم المؤلف طاغ على العنوان. هذا ناهيك عن الألوان المستعملة في الغلاف والتي لها دلالات، وتوحي بالكثير. إلا أنه من حيث المضمون فإن العنوان يكتسي أهمية وبعدا أساسيا في الدراسات الأكاديمية، فالعنوان الذي نحن بصدده يحتوي مكونا أساسيا، يتجلى في إشكالية خطاب الكينونة بين الماضي والمستقبل. وهو ما يجعلنا نلمس بأن هناك خطابا تفاؤليا تبحث عنه المبدعة
في الشعر وفي التشكيل وفي الحروفية. إذ إن العنوان يحاول تجاوز الانطباعية والذوقية في الأدب وفي الفنون العربية إلى تأسيس خطاب مبني على أسس تطبيقية. وبذلك فعتبة هذا المؤلَّف تستبطن الثقافة والشعر والفن بنظريات جمالية وبجهاز مفاهيمي له أسسه المنهجية لإكساب المادة الفنية والشعرية طابعا معرفيا.

2 – المنجز الفني في الكتاب

يتبدى أن تدوين أعمال حروفية في كتاب متفرد من حيث المزج بين عدد من المكونات الثقافية والفنية يعطي انطباعا بأن المبدعة لها مقصديات معرفية ومنهجية في التعامل مع المادة الحروفية والمادة التشكيلية، يظهر ذلك من خلال البعد المنهجي أو بين التداخل والتخارج. فهي تؤسس لمدرسة نسائية تجمع بعض المكونات الثقافية والفنية على نحو من التأريخ لهذه المادة التي تكتسي أهمية كبيرة في النقد؛ بحيث تُمكن المتتبع من الوقوف على التيارات النظرية والمنهجية التي تؤسس للظاهرة الحروفية النسائية؛ وذلك مرورا بالإرهاصات التي مرت منها المبدعة في جانبها الثقافي والمعرفي لتصل إلى مرحلة التأسيس ووصولا إلى مرحلة النضج حيث يتبين للمتتبع الناقد معالم الممارسة الحروفية في ارتباطها بالحقول التي سيقت منها الآليات والمفاهيم من أجل معالجة الظاهرة؛ فقد سارت المبدعة على هذا النهج، ومعلوم أن المبدعة قد بسطت في مؤلفها خطابا صريحا تدل على البعد التراكمي للحروفية والتشكيل في فضاءين : معرفي وفني، ولذلك وجدنا الكتاب يستعرض اللحظات الحروفية حرفا بحرف من خلال الشعر وتقصد النصوص في البؤر الحروفية بمعاني حروفية مرت منها المادة على سبيل الممارسة الفنية والجمالية وتحصيل الصيغ الدلالية بما في ذلك اللحظة التشكيلية.
لذلك فإن البعد الإشكالي في سؤال الحروفية بهذا الكتاب يجعلنا بصدد مجموعة من التساؤلات، التي تحيل إلى وجود همّ معرفي وروحي وثقافي وفني، وهو جوهر الإشكالية بين الجانب الأدبي في الكتاب والفن مع ما تطرحه المبدعة من سمات حروفية وتشكيلية بارزة أهمها الآليات التي ينبغي قبولها كأساس لإضفاء الشرعية على الحروفية النسائية، أي من هذا الاستنتاج تتبدى الحروفيات قادرة على معالجة النصوص الأدبية دون الانزلاق في إيديولوجية المنهج أو المفاهيم الذاتية. فهي تميز بين المادة الأدبية أو النصوص والحروفية والتشكيل، بيد أنها أثناء المزج تُكسب كل عمل خاصيات ذات مرجعية مركزية.
وبناء على ما تقدم، فإن سحرية اللوحات الحروفية للمبدعة رجاء تتجسد لديها في عملية المزج التشكيلي، والتركيب اللوني، والتداخل الحروفي بنوع من النسبية؛ وهو منجز يحيل إلى أن المبدعة تستهدف مسارا فنيا جديدا يعتمد العصرنة في التوظيف الحروفي واللوني والشكلي، وهي بذلك تتقصد الجماليات الحروفية وفق محددات منطقية وفنية. إذ تكتسح المساحة بنوع من الدقة في الوضع، وبنوع من الحزم في عملية التنظيم الفارقي، ما يدعم حتما الجانب الجمالي في الشكل العام وفي قيم السطح، فيضحى الملمس التشكيلي ناقلا إلى جانب عناصر التصميم الفني مجموعة من الرسائل المتنوعة في نطاق دلالي وظيفي، وفي سياق الحروفية العربية المعاصرة التي تُدلل على التعبير عن مضمرات في الجهاز المضاميني الذي يضفي قيمة معنوية على أعمال المبدعة. فهي تشكل ذاتا متعددة الأجناس الفنية، فتشكيلاتها الفنية، وتوظيفاتها الحروفية، ونصوصها المعبرة، تجعل من أعمالها بؤرة للإبداع المتعدد في الواحد، ومساحة فنية وجمالية قابلة للمتابعة النقدية، لأن هذه المسالك تتقاطع فيما بينها فيؤثر بعضها في بعض، لأنها صادرة من ذات واحدة. وصدورها يكون برمزية وإيحاء في قالب فني متوهج، لتقدم بلاغة فنية جديدة متكاملة المعالم الجمالية. فإذا كانت تتخذ من الفن مُنطلقا لتوزيع إبداعاتها وفق ما يتطلبه كل مسلك من مقومات جمالية ومن تأثيرات مسلكية. فهي في الآن نفسه تُحدث قفزة حروفية بأسلوب فني متفرد، قوامه التعبير بآليات فنية وبتشكيلات جمالية وبحروف تجريدية لتصنع مساحة فنية جديدة، تضبطها ثقافيا ومعرفيا وفنيا من خلال هذا المؤلف. (كنت وسأكون.) إنه التحدي النسائي، لقد وقّعَته بحروفيات ذات جماليات متفردة، ورسومات واقعية مبهجة. وهو ما يكشف عن مشروع فني ذاتي للمبدعة رجاء، تتبدى فيه تصوراتها لعلاقة الشعر، أو لأوجه العلاقة التي تجمع الفنون الأدبية بالحروف، فالحروف تكتب شعرا وتجسد حروفية، وتُشكَّلُ رسما تجريديا ويُعبَّر بها تشكيلا واقعيا. وهنا تكمن أهم التصورات الجمالية والرؤية الفنية العالمة للمبدعة رجاء وقدرتها على الإبداع في نطاق متعدد المعالم الفنية والأوصاف الجمالية نظريا وممارسة. لتحقق في أسلوبها المتفرد مواد جديدة تمنح المجال الفني إضافة خاصة، لمّا نجد أعمالها تكتنز عددا هائلا من المفردات الفنية، والعناصر المكونة للقاعدة الجمالية في شمولية تجعل من إبداعها خزانا معرفيا وثقافيا وفنيا.
إن التثبيت المحكم لمفردات الحروفية العربية من جهة، والقدرة التحكمية على تنظيم مجال الرسم وفق وهج حروفي متعدد الأشكال من جهة أخرى، وتوقيع مادة تشكيلية واقعية
بفنيات مبهجة وتقنيات عالية، يدلّ على مقدرة المبدعة في تدبير المجال الحروفي وتدبير المسلك التجريدي وتدبير الاتجاه الواقعي وفق التوظيف الشكلي والفني والجمالي على نحو من التعبير الذي يَخضع لجهاز مضاميني مُضمر في كل لمسة، وفي كل حرف، وفي كل شكل، فتُحقق توليفا بين وحدة الشكل والبناء والتصور والأسلوب. ما يفصح عن استيعابها المطلق – عن وعي أو عن غير وعي – للمادة الفنية برمتها وما يلفها من جميع مستلزمات الفن المعاصر. فاعتناؤها بآليات التوظيف الفني المنظم، واحترام خصوصيات كل مسلك فني على حدة، يُحيل مباشرة إلى أن المبدعة تتقصد التوظيف الجمالي المحكم لكل المفردات الجمالية في كل الأجناس الفنية، فتضحى عمليات المزج بين التشكيل والخط والحروفية وفن الرسم ذات نغمة موسيقية حية، خاصة وأن المبدعة قد دخلت غمار كل بؤرة فنية بنوع من الجرأة الفنية وحاولت تبئيرَ جميعَ حيثياتها التشكيلية، فانعكس ذلك في أعمالها الفنية. ولا شك أن هذا التأطير يأتي في سياق ممارسة فنية تروم كل هذه المسالك التي تم ذكرها سلفا من تجريد وحروفية وواقعية، وخط ، ورسومات تشكيلية، بعناية المبدعة المستلهمة من ثقافة الفنون، ومن المعرفة الحصيفة مختلف الاستعمالات المائزة؛ كل ذلك له تأثيره في الواقع الفني للمبدعة. وهو واقع يَبصم سحرية الحرف والتجريد والتشكيل في الفن المعاصر، بكل تجلياته ونبضه وقيمه الجمالية. إنها رؤية فنية متكاملة ومتجانسة في أعمال المبدعة رجاء في المجال الفني عموما، لذلك فهي توظف عددا
هائلا من المفردات الفنية والصيغ الجمالية والعناصر التشكيلية بتوزيع متنوع في الشكل، كلٌّ حسب خصوصياته الأسلوبية في الفضاء، مع الاعتناء بقيم السطح، ومنطق توزيع المساحة، ما يجعل أعمالها تحظى بأهمية بالغة في عمق الفن المعاصر المرصع بنشوة الجمال المعاصر، والثقافة الفنية ذات المعرفة الشاملة المفتوحة على كل العوالم، وذات النهج الثقافي القويم، وذات التداعيات الروحية؛ ما ينم عن معجم فني ودلالي متنوع، يحكمه التأطير الفني المتفرد الذي يتراءى ضمنيا في أسمال الجمال البائن، وفي الدال الحروفي والبؤر التشكيلية ذات المعاني المقصدية، وهو ما يؤشر على أن المبدعة تترصد استنطاق المادة الحروفية بحمولتها الثقافية والمعرفية من جهة، وتستهدف المادة التشكيلية بفنياتها من جهة أخرى بتوظيفات تقنية معاصرة، وبَين تِين الخِلتين تتمظهر جماليات إضافية تمنح المنحى الدلالي تحويلا إبداعيا آخر يتمثل الجمال الفني الإضافي، وهو يأتي في سياق عدد من التفاعلات الفنية التي تستجلي المستبطنات التعبيرية، في نطاق إبداع مفتوح على رزمة من الجماليات وعلى الأبعاد القيمية، التي تنتج العديد من الدلالات البصرية. وبذلك تتبدى أعمالها في هذا المؤلف (كنت وسوف أكون) شاهدة على مشروع فني يجمع عددا من الأجناس التي لها وزنها في صفوة الفن المعاصر.
3 – المنجز الحروفي

ففي سياق المادة الحروفية التي حملها هذا الكتاب تبدو مختلف الاستعمالات مدججة بطابع رمزي، وعلامات لونية. تضطلع بتقاطعات فنية وجمالية وترتيب جزئياتها من خلال سمات الملمس الذي يتمظهر في وضع حروفي يرمي بثقل جمالي، مرصع ببعض الأشكال التي تحتوي الرموز والعلامات التي تؤطرها التقنيات المعاصرة وكيفيات التشكيل المختلفة، ما يمنحها تحويلا فنيا يتمثل البعد الجمالي، خاصة وأن رزمة من المفردات الحروفية تتراءى وفق مؤثرات تشكيلية وفنية يحكمها نسق معرفي مركّب، مليء بالطاقة التعبيرية، تتقصد به المجال البصري، لإبراز الملامح الجمالية للشكل الحروفي. وبذلك تفصح الأعمال الحروفية في مجملها عن قوة تعبيرية، وعن قوة التركيب اللوني والحروفي، ما يؤشر على أن المبدعة تتخطى المجال الكلاسيكي، لتقدم الحروفية العربية في منجز مفعم بالعصرنة، الشيء الذي يفضي إلى تطور بائن في العملية الحروفية المقترنة بالتجريد، وهو تطور مفتوح على كل العوالم الفنية والجمالية، خاصة وأن المبدعة توزع في الكتل والخطوط والأشكال والحروف والألوان وفق بؤر بصرية، لتستجلي الإيحاءات المتعددة والدلالات المتنوعة.
ولا شك أن للنصوص بُعد فني في أعمالها الحروفية؛ وهو بُعد مبني على أسس مفاهيمية، وعلى توزيع منطقي في المساحة، وعلى ضبط دقيق للمقاييس في الفضاء، ما يسمح لمختلف عمليات التركيب وعمليات الوضع أن تحافظ على وحدة التكوين. وهي تتقصد
من خلال كل ذلك حداثة الأسلوب وتطوير الحروفيات وتوجيه أعمالها نحو العصرنة. وذلك وفق التقنيات المعاصرة والمعرفة الحقة بحيثيات المجال الحروفي، لتفي بشكل مطلق لأسلوبها المائز الذي يخضع إلى رؤية فنية وجمالية معاصرة، بما يكتنزه من أبعاد قيمية ودلالية وأسس جمالية، وبما يحتويه كذلك من تكامل وانسجام في عملية البناء والتحوير والتوليف بين مختلف العناصر الحروفية.
4- المنجز التشكيلي الواقعي يعد المنجز الواقعي في الأعمال المثبتة في الكتاب أحد الركائز الفنية الأساسية في تشكيل أعمال ذات قيمة عالية، فهي الفنانة التشكيلية التي أنجزت أعمالا مبهرة في فن الواقعية، باجتهاد منطقي تركز فيه على مقومات  الطبيعة وأشكال الواقع وفق خاصيات جمالية تروم من خلالها نقل مجموعة كبيرة من المعاني عبر الفن الواقعي ثم الفن التشكيلي المعاصر، بوصفه مادة تعبيرية وجمالية تقود مختلف التحولات الفنية؛ وهي تحولات كبرى تلقي بظلالها في هذا المنجز المتفرد؛ فقد تمكنت المبدعة من الرفع من قيمة هذا التحول من خلال تجربتها الإبداعية التي تنصهر في جوهر الواقع وفي عمق المشاهد التي تحاكي الواقعية بنوع من الإبداع لإنتاج المعنى وتوليد الدلالات. فهي تعبر في هذا المنجز بمفردات تشكيلية تستقي من الواقعية مادتها التشكيلية، بتدرجات لونية جمالية تنسجها وفق بنائها الفضائي بإضافة عناصر فنية جديدة بما تحمله تقنياتها العالية من تغيرات وتجديد، تجعل من المجال اللوني الجميل بناء فنيا منظما في تواشج عميقة الدلالات، عن طريق التعبير بالملامح الواقعية. فاستخداماتها الفنية وتثبيتها لعناصر الطبيعة وأشكال الواقع بانسجام تام بين كل المكونات التشكيلية، يعكسه المزج بين ملامح الألوان الراقية، تبعا لنسق الأشكال الجميلة والمفعمة بالحركة. فتجسيد تلك الأشكال المختلفة بموتيفات شكلية تعيد صياغتها بأنساق لونية قوامها الجمال، يمنح أعمالها حركة، تمزج بينها وبين المفردات والأشكال والكتل التي تحرك الفضاء، بتقنيات عالية ومؤهلات كبيرة، تركب بين المنحى الجمالي والشكل الواقعي التعبيري بأسلوب تشكيلي معاصر. فيتجلى حسها الفني في التخفيف والجودة اللونية، والدقة في الرسم. وفي تقنيات المسح وجودة الملمس والوصل بين مختلف المفردات الفنية، التي تشكل العمل التشكيلي لديها. فيتحقق في أعمالها التجاور والتنوع، وتسعى في كل لون إلى تحقيق تواشج مع لون آخر أو عبر وحدة الشكل والبناء والرؤية والأسلوب، فيفضي ذلك إلى مضامين تكسب أعمالها الواقعية قيمتها الجمالية تتبدى من خلال حوارات داخلية تميز خطابها التشكيلي لترسي التخصص الواقعي وفق مسلك تعبيري مبني على قاعدة من الألوان المعاصرة، والأشكال التعبيرية المفتوحة، تقارب بها بين المبنى والمعنى وبين التقاسيم السمفونية التي تملأ الفضاء، وهي نتيجة مخيلة خصبة تؤهلها لتوليد مجموعة من الدلالات بإمكانات فنية هائلة تجد لها طرقا تأويلية متعددة.
إنها بذلك تنتج لدى الناقد أو القارئ سلسلة من القراءات المتغيرة، كما أن توظيفها لجملة من العناصر التي تنبذ الشكل الواحد للمعنى يجعل من فنها الواقعي أداة مصدرية للفهم والإدراك الجمالي داخل المنظومة الواقعية التشكيلية، وضمن علاقات مغايرة لا ينتهي عندها العمل في حد معين، وإنما ينبئ بدلالات ومعان مختلفة. تسهم في تكثير المعنى وإطلاقه في رحاب أوسع بمنهجية ووسائل ومواد فنية وتقنية رائقة، تبعا للشروط الفنية الجمالية والمعرفية. إنه اشتغال واقعي مثير. ومتميز بالخصوبة في الإبداع وفي التعامل مع طروحات المادة التشكيلية الواقعية، حيث ترتكز على الرؤية الجمالية في التشكيل بقوة في الإتقان، وإحالة العمل الفني في عمومه إلى أعمدة الدلالات.
خلاصة إن المبدعة رجاء تتوافر فيها مجموعة من الخاصيات المقترنة بالموهبة من جهة، والمتعلقة بالهاجس الداخلي من جهة أخرى، لذلك فهي تتحرى بعث القيم الروحية من خلال الكلمة الهادفة ومن خلال الحرف، ومن خلال الانضباط التشكيلي الواقعي. فتتبدى أعمالها حمالة لأوجه من القيم الفنية والجمالية والروحية. ويشكل هذا الكتاب “كنت وسوف أكون” بصمة فنية وثقافية ومعرفية مهمة في المشهد الثقافي والفني المغربي والعربي، ويشكل كذلك وقفة إبداعية نسائية وحضورا لروح التحدي النسائي على صعيد الكلمة والحرف في تجلياته المضامينية والفنية.

بقلم: محمد البندوري

Related posts

Top