هل نحتاج إلى شرعة عالمية للبيئة؟

منذ «إعلان استوكهولم حول البيئة البشرية» عام 1972، صدر ما يزيد عن ألف اتفاقية دولية تتناول قضايا بيئية محددة. فهل كانت هذه الاتفاقيات مفيدة للعمل البيئي، وهل نحن بحاجة إلى المزيد منها؟
الاتفاقيات البيئية بين الدول هي الأدوات الرئيسية التي تتيح التعاون في إطار القانون الدولي للتعامل مع القضايا البيئية المشتركة العابرة للحدود، من النفايات والمواد الكيميائية، إلى التنوع البيولوجي والتصحر وحماية البحار والمحيطات، وصولا إلى حماية طبقة الأوزون وتغير المناخ.
وفي حين يخضع الالتزام بكثير من هذه الاتفاقيات إلى قوانين «لينة» تعتمد على حسن نية الدولة المعنية، تحكم بعضها الآخر قوانين ملزمة. لكن فرض تطبيق مندرجات هذه الاتفاقيات يواجه في الغالب مشاكل لناحية تقرير المحاكم الصالحة للنظر في المخالفات والنزاعات. وهذا يعود إلى التقاطع بين سيادة الدول على أراضيها ومواردها ضمن حدودها المعترف بها، ومدى تسبُّب نشاطاتها داخل هذه الحدود بأذى للدول المجاورة والبيئة العالمية عامةً. ومن ناحية أخرى، يحتجّ القضاة في المحاكم الدولية أن نصوص الاتفاقيات البيئية الدولية غير واضحة بما فيه الكفاية للحكم في بعض القضايا التي تعرض عليهم. فهل يكون الحل في تعزيز الاتفاقيات الموجودة أو في وضع اتفاقية جديدة شاملة ومُلزمة؟ غير أن الغموض في بعض النصوص مقصود، للحصول على الإجماع المطلوب لتمرير الاتفاقيات.
الأسس الأولى لتنظيم الإدارة البيئية على مستوى دولي وضعت في «مؤتمر الأمم المتحدة حول البيئة البشرية»، الذي عقد في استوكهولم في 5 يونيو عام 1972، وصدر عنه إعلان يشتمل على 27 مبدأً. هذه المبادئ العامة، غير الملزمة قانونا، تحدثت عن البيئة الطبيعية بصفتها إرثا إنسانيا مشتركا يتوجب رعايته، واستهلاك الموارد ضمن الحدود التي تسمح للطبيعة بتجديدها، حفاظا على حقوق الأجيال المقبلة. ومن العناوين التي عالجها «إعلان استوكهولم»، إلى جانب إدارة الموارد، التمدد العمراني واستعمالات الأراضي والتلوث. هذه كانت المحاولة الدولية الأولى لدراسة أثر النشاط الإنساني على البيئة.
تمخض مؤتمر استوكهولم عن إنشاء برنامج الأمم المتحدة للبيئة (يونيب). العالم المصري مصطفى كمال طلبه، الذي لعب دورا محوريا في إنشاء المنظمة البيئية الدولية وترأسها حتى عام 1992، عمل خلال ولايته التأسيسية على إطلاق الاتفاقيات الدولية التي تحكم العمل البيئي. فهو أدرك، بنظرته الثاقبة وبحكم خبرته السياسية، أن الاتفاقيات القائمة على أهداف محددة وبرنامج زمني للتنفيذ، هي الوحيدة القادرة على تغيير الوضع البيئي. لم يشأ طلبه أن يترأس جمعية أهلية دولية يقتصر دورها على الاحتجاجات والتمنيات، بل أراد تحويل «يونيب» إلى قوة فاعلة على الساحة الدولية، من خلال تطوير معاهدات وبروتوكولات بيئية، ولو كان الالتزام بها في بعض الحالات طوعيا. فمع وجود قواعد وضوابط محددة، أصبح ممكنا، على الأقل، التشهير بالمخالفين الذين لا يلتزمون بما وافقوا عليه، والسعي لاحقا إلى الإلزام بالتنفيذ.
وقد أدرك طلبه منذ البداية، وهو القادم من العالم الثالث، أن تنفيذ الاتفاقيات البيئية يحتاج إلى تمويل، إذ لا يمكن حجب الحق في التنمية عن الدول الفقيرة، بعد عقود من استغلال الدول الصناعية لثروات العالم الطبيعية بلا قيود، لذا أصر على أن تترافق كل اتفاقية بيئية مع صندوق لدعم تنفيذها. وقد يكون «بروتوكول مونتريال» لتمويل تدابير حماية طبقة الأوزون النموذج الأبرز في هذا المجال، إذ أن صندوق الأوزون المتعدد الأطراف، الذي نفذت الدول الغنية التزاماتها بدعمه، كان العامل الحاسم في تحقيق أهداف البروتوكول المرحلية قبل مواعيدها. وقد ساعد الصندوق الدول الفقيرة في استبدال المواد الكيميائية المسبّبة لترقُّق غلاف الأوزون في الطبقات الجوية العليا بمواد بديلة.
سبب النجاح هنا لم يكن محصورا بوضع شروط ملزمة في البروتوكول، بل الدعم المالي لتنفيذ بنوده، مع آلية رقابة دقيقة. الاتفاقيات الأخرى لم تحظَ بآلية مماثلة للتنفيذ، بما فيها التنوع البيولوجي والبحار والتصحر. أما صندوق المناخ، فلم يتم تفعيله بعد بالحجم المناسب، مما تسبب بتباطؤ في تحقيق الأهداف.
مؤتمر ريو حول البيئة والتنمية، المعروف بـ «قمة الأرض»، الذي عقد عام 1992 وتمخض عن «إعلان ريو» وجدول الأعمال للقرن الحادي والعشرين (أجندة 21)، وضع مبادئ محددة للتنمية المتوافقة مع المتطلبات البيئية. وقد يكون مبدأ «الملوِّث يدفع» أبرز مبدأ عملي نتج عن هذا المؤتمر. وإذا كانت أسس القانون البيئي الدولي وضعت في استوكهولم وريو دي جانيرو، فقد تم استكمالها في نيويورك عام 2015 مع الاتفاق على 17 هدفا للتنمية المستدامة ورعاية البيئة، للتنفيذ مع حلول سنة 2030. وهذه تشمل القضاء على الفقر والجوع، وتأمين المياه النظيفة والطاقة والتعليم للجميع، وترشيد إدارة الموارد الطبيعية عن طريق تعديل أنماط الاستهلاك والإنتاج، والحد من تغير المناخ. هكذا استكملت مبادئ رعاية البيئة وإدارة الموارد بأهداف مفصلة، التزمت الدول بالإجماع على تنفيذها.
هذا الالتزام يبقى طوعيا ما لم يترافق مع إلزام قانوني. فرنسا قادت، بالتزامن مع الاتفاق على أهداف التنمية المستدامة، حملة لوضع شرعة عالمية للبيئة، تكون بمثابة قانون بيئي دولي ملزم. الجمعية العامة للأمم المتحدة تبنت بحث الموضوع في اجتماعات دولية عدة عقدت منذ ذلك التاريخ، وانتهت بلا اتفاق. وكان جوهر الخلاف أن الدول النامية ما زالت تعترض على فرض قيود على التنمية داخل حدودها، ما لم تكن مقرونة بمساعدات مالية. والدول الصناعية الغنية ترى أنه حان الوقت للدول النامية كي ترتب بيتها الداخلي، فتقيم أنظمة حكم رشيدة وتكافح الفساد والهدر، لكي تحصل على مساعدات مشروطة، تطغى عليها صفة الاستثمارات لا الهبات. وإذا كان في الموقفين شيء من الصحة، فالحقيقة أن بين من يقف وراءهما أطراف لا ترغب بقواعد ملزمة تحكم القانون البيئي الدولي.
الأولوية يجب أن تكون لتفعيل الاعلانات والاتفاقيات البيئية الموجودة. فهي تحتوي على ما يكفي من المبادئ التي يمكن الاستناد إليها في القانون الدولي. لكن النجاح مرهون بوضع آلية مالية للتنفيذ يشارك فيها الجميع، تكافئ الملتزم وتعاقب المخالف. أما «الشرعة العالمية للبيئة»، فقد تم وضعها بالفعل منذ نحو نصف قرن في «إعلان استوكهولم».
ليس المطلوب نصوص جديدة، بل قرار سياسي جدي بالتنفيذ.

> نجيب صعب

 أمين عام المنتدى العربي للبيئة والتنمية

Related posts

Top