63 عاما على مجزرة قبية الفلسطينية ..

 مساء يوم الرابع عشر من شهر أكتوبر لعام 1953، لم يكن أهالي بلدة قبية قرب رام الله يعلمون ما كانت قوات الاحتلال الإسرائيلي التي كانت قد وقعت لتوها على اتفاق الهدنة مع الدول العربية المجاورة، تخبئه لهم.
فبعد السنوات القليلة التي أعقبت توقيع الاتفاق، صعدت سلطات الاحتلال الإسرائيل عملياتها العسكرية لتحقيق مجموعة من الأهداف على رأسها فرض الصلح على هذه الدول، وتشكيل حاجز مفرغ من السكان على امتداد شريط الحدود، فعمدت إلى تفريغ القرى الأمامية الفلسطينية من سكانها سواء بالإبادة أو بالنزوح خوفاً من الإبادة، وقد ساهمت العمليات الإسرائيلية في اجتياز الحدود وارتكاب المذابح ضد المدنيين بنسبة كبيرة من مئات عمليات الاعتداء والسرقة وإطلاق النار على الأهالي أو خطفهم ونسف المنازل أو لغمها وغير ذلك من الاعتداءات التي كان يقوم بها جيش الاحتلال عبر الحدود الأردنية أو السورية أو اللبنانية أو المصرية.
وكانت مذبحة  قبية إحدى المذابح البارزة التي خلفت أصداء واسعة وآثاراً وردود فعل مختلفة على الساحتين الأردنية والعربية، شأنها في ذلك شأن الأصداء والآثار التي خلفتها فيما بعد مذبحة غزة عام 1955، أو العدوان الإسرائيلي الواسع على بلدة السموع في الخليل عان 1966.
تقع قرية قبية على مسافة 22 كم شمالي شرق مدينة القدس و44 كم غربي مدينة رام الله. وهي على بعد قرابة كيلومترين من خط الهدنة الأردنية – الإسرائيلية. وكان عدد سكانها يومذاك نحو 3.000 نسمة، ويملكون أراضي مساحتها 16.504 دونمات لم يبق لهم منها سوى عدة دنمات.
تعرضت هذه القرية ليلة 14-15- 1953 لعدوان إسرائيلي وحشي نفذته وحدات من جيش الاحتلال وفق خطة معدة مسبقاً واستخدمت فيها مختلف أنواع الأسلحة، ففي الساعة 7:30 من مساء يوم 14 أكتوبر تحركت قوة عسكرية إسرائيلية تقدر بنحو 600 جندي نحو القرية وطوقتها وعزلتها على سائر القرى العربية.
وقد بدأ الهجوم بقصف مدفعي مركز وكثيف على مساكن القرية دون تمييز استمر حتى وصول القوة الرئيسة إلى تخوم القرية، في حين توجهت قوات أخرى إلى القرى المجاورة مثل شقبا وبدرس ونعلين لمشاغلتها ومنع تحرك أية نجدة نحو قبية، كما زرعت الألغام على مختلف الطرق بحيث عزلت القرية تماما، وقد دخلتها قوات المشاة وهي تطلق النار في مختلف الاتجاهات فتصدى لها السكان ورجال الحرس الوطني بقيادة النقيب محمود عبد العزيز رغم قلة عددهم وأسلحتهم وردوا على النيران بالمثل وظلوا يقاومون حتى نفدت ذخائرهم واستشهد معظمهم، وقد تمكن قائد الحرس الوطني من الوصول إلى قرية دير قديس حيث اتصل لاسلكياً بالقيادة العسكرية الأردنية في رام الله طالبا النجدة والذخيرة. ولكن النجدة العسكرية الأردنية التي تحركت عن قرية بدوس اشتبكت مع العناصر المعادية الكامنة في الطرق ولم تستطع الوصول إلى قبية.
وفي الوقت الذي كانت وحدات المشاة الإسرائيلية تهاجم السكان وتقتلهم كانت وحدات المهندسين العسكريين الإسرائيليين تضع شحنات متفجرة حول بعض منازل القرية وتفجرها بسكانها تحت حماية المشاة الذين كانوا يطلقون النار على كل من يحاول الفرار من المنازل المعدة للتفجير. وقد استمرت هذه الأعمال الوحشية حتى الساعة الرابعة من فجر يوم 15/10/1953 حين انسحبت قوات الاحتلال إلى نقاط انطلاقها دون أن تصل إلى قبية أية قوة من الجيش الأردني لفك الحصار ورد العدو عنها وإنقاذ أهليها.
نجم عن هذا العدوان تدمير 56 منزلاً ومسجد القرية ومدرستها وخزان المياه الذي يغذيها بالماء، واستشهد فيها 67 من سكانها رجالاً وأطفالاً ونساء وسقط عدد كبير من الجرحى، وكان أول شهداء القرية مصطفى محمد حسان. وأبيدت أسر كاملة منها أسرة عبد المنعم قادوس البالغ عدد أفرادها 16 شخصاً، واستشهد موسى أبو زيد وأربعة من أفراد أسرته وزوجة محمود إبراهيم وأطفالها الثلاثة وأربعة من أطفال محمد المسلول وغيرهم.
وقد أكد التقرير الذي قدمه الجنرال “فان بينيكه” كبير المراقبين الدوليين إلى اجتماع مجلس الأمن يوم 27/10/1953 أن الهجوم الإسرائيلي على قبية كان مبيتاً، وأن قوات نظامية ترتدي البزات العسكرية هي التي نفذته، وأن لا صحة للمزاعم الإسرائيلية القائلة بأن مجموعة من المستوطنين من سكان مستوطنة “طيرة يهودا” وهي المستوطنة التي أقيمت على أنقاض قرية العباسية هم الذين قاموا بهذا الهجوم انتقاماً لمقتل اثنين من سكان المستوطنة كانا قد قتلا قبل يومين في11/10/1953 على يد عدد من المتسللين الفلسطينيين.
أثار هذا العدوان موجة من السخط والغضب، فقامت المظاهرات في القدس ونابلس وعمان وأرسلت برقيات الاحتجاج إلى جميع الجهات المعنية وصب المتظاهرون جل غضيهم على الولايات المتحدة الأمريكية وانكلترا اللتين تساندان “إسرائيل”، ولم ينج “الجنرال غلوب” رئيس هيئة أركان الجيش الأردني من كلمة الجماهير التي اتهمته بالتقصير عن عمد في تسليح وتحصين قرى الحدود وطالبت بإقالته ونددت بعدم اتخاذ الإجراءات الفعالة لحماية القرى الأمامية وتقاعس الجيش الأردني وعدم تلبيته نداءات الاستغاثة والمبادرة إلى نجدة أهالي القرية وهم يذبحون طوال ليلة كاملة، وحملت قيادة هذا الجيش التي يقف على رأسها الضابط البريطاني “غلوب باشا” مسؤولية ما حدث.
عقد نواب الضفة الغربية اجتماعا في رام الله يوم 17 تشرين الأول وأصدروا بياناً قالوا فيه “إن الاجراءات التي اتخذتها السلطات المسؤولة حتى الآن لوقف الاعتداءات الإسرائيلية المتكررة غير كافية ولا مرضية، وهذا ما شجع الإسرائيليين على مواصلة إجرامهم”. وجاء في البيان أن الحرس الوطني لم يكن مسلحا تسليحاً كافياً وأن نجدات القوات النظامية لم ترسل في الوقت المناسب. وطالب هؤلاء النواب بدعوة المجلس إلى الانعقاد وتشكيل لجنة برلمانية للتحقيق في ظروف المذبحة. كما طالبوا الحكومة بتنفيذ ميثاق الضمان الجماعي وتحصين القرى الأمامية وتسليح الحرس الوطني بشكل فعال. وعقد مجلس الوزراء الأردني جلسة طارئة قرر فيها تزويد القرية بالمواد الغذائية والطبية، وإعادة بناء المنازل المهدمة، ودفع تعويضات مالية للمتضررين، مع التحقيق في أسباب عدم تدخل الجيش الأردني لصد المهاجمين وتقاعسه عن نجدة سكان قبية.. كما قرر مجلس الوزراء تشكيل لجنة وزارية للتحقيق في موقف الجيش برئاسة رئيس الوزراء. وقد قامت اللجنة بإجراء تحقيقاتها وقدمت تقريرها إلى مجلس الوزراء الذي أصدر بيانا في 6/11/1953 جاء فيه أن المجلس قرر إنزال عقوبات الاستغناء عن الخدمة والطرد والسجن وتنزيل الرتبة والإحالة على التقاعد بحق العسكريين الذين ثبت تقصيرهم وتنفيذ العقوبات التي أقرت بحق المدنيين الذين تهاونوا في القيام بواجبهم.
كان من بين الآثار الهامة التي تمخضت عنها هذه المذبحة على الصعيد المحلي عزل الجنرال غلوب عن رئاسة هيئة أركان الجيش الأردني وترحيله إلى خارج البلاد وتعريب الجيش في الأول من آذار 1956.
وكان أهم قرار اتخذه مجلس الوزراء الأردني دعوة اللجنة السياسية لجامعة الدول العربية إلى عقد اجتماع لها في عمان لبحث مسألة التعديات الإسرائيلية وحالة الحدود. وقد عقدت اللجنة أول اجتماع لها في عمان يوم 21 تشرين الأول وقام أعضاؤها في اليوم التالي بزيارة قرية قبية وشاهدوا آثار الدمار والقتل والجثث التي كان يتم إخراجها من تحت الأنقاض.
وقد قررت اللجنة السياسية دعوة مجلس الأمن إلى عقد جلسة طارئة. وتقدم الأردن بشكوى إلى المجلس طالباً بحث العدوان على قبية فاجتمع المجلس يوم 19//11/1953 ودعا الجنرال فان بينيكه لسماع تقريره الذي كان في مجمله لصالح العرب وإدانة كاملة للإسرائيليين.
لكن ذلك كله لم يدفع مجلس الأمن إلى اتخاذ قرار حازم ضد الاحتلال الإسرائيلي فاكتفى في قراره رقم 101 وتاريخ 24/11/1953 بالقول انه “يجد أن العمل الانتقامي على قبية الذي قامت به قوات إسرائيل المسلحة في 14-15 أكتوبر 1953 وجميع الأعمال المشابهة تشكل انتهاكا لنصوص وقف إطلاق النار الصادر بقرار مجلس الأمن رقم 54 (1948)، وتتناقض مع التزامات الطرفين بموجب اتفاقية الهدنة العامة بين إسرائيل والأردن وميثاق الأمم المتحدة” وأعرب المجلس عن “أقوى إدانة لهذا العمل الذي لا يمكن إلا أن يحل بفرض التسوية السلمية التي على الطرفين السعي لها وفق الميثاق”.

فلسطين المحتلة

Related posts

Top