أياً كانت العوامل التي لعبت درواً في الوصول إلى تفاهمات القاهرة بين حركتي فتح وحماس، لإنهاء الإنقسام، وإستعادة الوحدة الداخلية، فإن عامل الضغط السياسي والجماهيري، الذي لعبته الحركة الشعبية الفلسطينية وقواها السياسية على الطرفين، سيبقى العامل الأبرز، إذ وتحت هذا الضغط سلم الطرفان، منذ سنوات، بضرورة إنهاء الإنقسام، وإن كانت التيارات الإنقسامية لدى كل منهما مازالت قوية، تعطل الوصول إلى الحل المطلوب.
ومع تفاهمات القاهرة، تصاعد هذا الضغط وتزايد، فلقد لقي الإتفاق ترحيباً من الجميع، دون إستثناء، والكل أبدى رغبته في الإستعجال بالعمل على رأب الصدع في المؤسسة الرسمية، بما يستجيب للحاجات اليومية والماسة لأبناء الشعب الفلسطيني في القطاع، والذي عانى الويلات، خلال أكثر من عشر سنوات من الحصار الظالم، لعب في توفير مبررات تمديده، السياسات الخاطئة، والممارسات التي صدرت من هنا وهناك، وفرت الذرائع (وإن كانت واهية وغير مقنعة) لتحويل الحصار إلى حالة «عادية».
والإستقبال الشعبي الذي لقيته حكومة الحمد الله، عليها ألا تعتبره تأييداً مطلقاً لها، وتعبيراً عن شعبية هذه الحكومة. لقد تدنت شعبية الحكومة وشعبية القيادة الرسمية السلطوية، عشية التفاهمات إلى أدنى مستواها، بسبب العقوبات غير المبررة التي اتخذت بحق المواطنين في إطار الإحتراب الثنائي بين فتح وحماس. ولعل مسيرة الخمسين ألفاً، من أبناء القطاع، ضد الإجراءات الظالمة، شكلت رسالة شديدة الوضوح لحقيقة الموقف الشعبي من الحكومة ومن طرفي الإنقسام معاً. وبالتالي، على حكومة الحمد الله أن تنظر إلى الإستقبال الشعبي والسياسي لها، في القطاع، على أنه دعوة واضحة لإطلاق ورشة إنهاء الإنقسام، وأن يكون معيار التحركات مصالح الناس، وحل مشاكلهم، وليس الصراع الثنائي على محاصصة جديدة في القطاع، تعيدنا إلى نقطة الصفر، وتبقى الأوضاع مهزوزة ومعرضة في أية لحظة للإنهيار. من هنا الدعوات إلى تشكيل لجنة وطنية عليا، من الفصائل الفلسطينية ومؤسسات المجتمع المدني، تتابع آليات استعادة وحدة المؤسسة، وتتابع اجراءات إطلاق المشاريع الضرورية في ورشة إعادة إحياء قطاع غزة، وبلسمة جراحه، ونزع الأشواك المؤلمة من الطريق بما يخفف العبء عن كاهل الناس، ويعيد لحياتهم اليومية بعض الإحساس بالاستقرار.
في السياق نفسه، يجب ألا يغيب عن البال، أن إنهاء الإنقسام، والعمل على استعادة الوحدة الداخلية، هو أولاً وقبل كل شيء، مسألة سياسية، وليس مجرد مسائل إدارية تطال مناحي الحياة اليومية للشعب الفلسطيني في القطاع. وبالتالي، من الطبيعي أن نسأل: ماذا بعد خطوات إعادة توحيد المؤسسة؟ ولماذا الحوار الثنائي بين فتح وحماس في القاهرة، وبعده حوار شامل تشارك فيه كل الأطراف الفلسطينية التي وقعت إتفاق 4/5/2011 في القاهرة (13 فصيلاً). ولأجل ماذا حكومة «وحدة وطنية»، ولأجل ماذا انتخاب مجلس وطني جديد يعقد في مكان يتم التوافق عليه؟
نعتقد، في إطار محاولة البحث عن جواب، أن إنهاء الإنقسام سيضع الحالة الفلسطينية أمام خيارين: الخيار الأول: أن تشكل استعادة الوحدة الداخلية خطوة في إطار تحضير المسرح السياسي الفلسطيني للإنخراط في «الحل الإقليمي» الذي تطرحه الولايات المتحدة وإسرائيل، والذي من شأنه أن يقود ـــــ ربما ــــــ إلى كونفدرالية جديدة مع الجوار الأردني على حساب المشروع الوطني الفلسطيني، وتحت سقف «الوصاية» لأمنية الإسرائيلية والخيار الثاني: أن يكون إنهاء الإنقسام محطة من محطات إعادة ترتيب البيت الفلسطيني، لمواجهة الإستحقاقات الخطيرة للمشروع الأميركي ــــــ الإسرائيلي، والتمسك بالمشروع الوطني الفلسطيني، كما صاغت عناوينه وثيقة الوفاق الوطني (2006)، وقرارات المجلس المركزي الفلسطيني (5/3/2015) وبيان اللجنة التحضيرية للمجلس الوطني في بيروت (10ـــــ 11/1/2017) وبيانات اللجنة التنفيذية وآخرها بيان 12/8/2017.
وهي كلها (وخاصة المجلس المركزي في 5/3/2015) سلّمت وأكدت أن العملية التفاوضية الثنائية، تحت الوصاية المنفردة لواشنطن، قد وصلت إلى الطريق المسدود، وأنها ألحقت الضرر بالقضية الوطنية من جهة، وشكلت غطاء سياسياً لمشاريع توسيع الإستيطان والإستيلاء على الأرض الفلسطينية وتدمير المشروع الوطني الفلسطيني، من جهة أخرى.
وكلها سلّمت وأكدت أن الطريق إلى الحل الوطني للمسألة الوطنية الفلسطينية يمر عبر الانتفاضة والمقاومة الشعبية، ووقف التنسيق الأمني مع الإحتلال، ومقاطعة الإقتصاد الإسرائيلي، وتدويل القضية والحقوق الوطنية، والعمل على نيل العضوية العاملة لدولة فلسطين في الأمم المتحدة، والمطالبة بحماية دولية للشعب والأرض، والدعوة لمؤتمر دولي تحت رعاية مجلس الأمن الدولي ودول البريكس وغيرها من أجل ممارسة الشعب الفلسطيني حقه في تقرير مصيره وإقامة دولته المستقلة كاملة السيادة على حدود 4 يونيو 1967، عودة اللاجئين إلى ديارهم بموجب القرار 194، وإحالة جرائم الإحتلال إلى محكمة الجنايات الدولية، ونزع الشرعية عن الإحتلال، وعزل الكيان الإسرائيلي.
من أجل هذا الهدف نقاتل ونناضل، وفي سبيل هذا الهدف كانت الدعوات منذ21/6/2007 (تاريخ إطلاق مبادرة الجبهة الديمقراطية) والتحركات والنضالات لأجل إنهاء الإنقسام والعودة إلى الوحدة الداخلية.
وهي أمور تفترض العمل على تشكيل حكومة وحدة وطنية، تلتزم ما جاء في وثائق الإجماع الوطني وتعمل على تطبيقه وإجراء إنتخابات شاملة، بما فيها إنتخاب مجلس وطني جديد، بالإنتخابات الحرة والنزيهة والشفافة، بموجب قانون التمثيل النسبي الكامل، كما أقرته حوارات القاهرة في فبراير 2013 وصادقت عليه اللجنة التنفيذية برئاسة رئيس اللجنة، كما صادقت عليه اللجنة التحضيرية برئاسة رئيس المجلس الوطني سليم الزعنون في عمان في مايو 2013. وينص الإتفاق على إنتخاب 350 عضواً، 150 منهم لتمثيل المناطق الفلسطينية (الضفة والقطاع والقدس) و200 لتمثيل الشتات، على أن تكون المناطق الفلسطينية دائرة واحدة، والشتات دائرة واحدة بنظام يتلاءم وخصوصية الشتات وظروفه السياسية، ووفق لوائح مغلقة، تكون حصة المرأة فيها 3%، ويكون سن الإنتخاب 21 سنة، أما عتبة الحسم فتكون 1% فقط. وأن يعقد المجلس في مكان يتم التوافق عليه.
مثل هذا المجلس، هو المعني بصياغة خطة العمل السياسي الجديدة، وفقاً لما سبق من توافقات وطنية.
مثل هذا الحل، لا يوفر للقطاع فك الحصار فحسب، بل يوفر للقطاع وللضفة والقدس، فتح الأفق للخلاص من الإحتلال، لقيام الدولة المستقلة كاملة السيادة، كما يفتح الأفق أمام حق العودة، مستنداً إلى الإنتصار الذي حققته الدولة المستقلة على الاحتلال والاستيطان. لذلك نخوض معركة إنهاء الإنقسام وإستعادة الوحدة الداخلية بإعتبارها حلقة في المعركة الكبرى، الناشبة منذ القرن الماضي من أجل الحقوق الوطنية المشروعة للشعب الفلسطيني.