الحاجة إلى رفع مستوى النقاش

بات من الملاحظ أن الوسط الثقافي المغربي يفتقر إلى ذلك النقاش الراقي الذي كان سائدا في العقود السابقة (السبعينات والثمانينات)، النقاش الذي يدور حول الأفكار وحول القضايا الفكرية والإبداعية والذي يتسم بالجدال دون أن يفضي به ذلك إلى السقوط في الاسفاف.
يحدث بين الفينة والأخرى أن ألقي نظرة على صفحات الفايس بوك، من أجل الاطلاع أولا على ما يحمله البريد ثم للوقوف على مستوى النقاش الدائر وطبيعة القضايا الآنية التي تشغل بال نخبة معينة من الناس، بينهم أدباء ومفكرون وإعلاميون وناس بسطاء وغيرهم، وغالبا ما يبعث ذلك على الأسف.
لقد صارت الأمور العادية، لا بل التافهة تسترعي اهتمام شريحة واسعة من مجتمعنا، إلى حد أنها باتت تطغى على سواها من القضايا التي من المفروض أن تكتسي طابعا فكريا.
تنتظر على سبيل المثال من أديب أو من يعتبر نفسه في عداد المثقفين؛ أن ينشر خبرا مفيدا أو ينتج فكرة أو شيئا من هذا القبيل؛ فإذا به يطالعك بصورة التقطها لنفسه وهو في غاية الانشراح أمام مائدة الطعام، وما شابه ذلك من الصور والسيلفيات.
الأدهى من ذلك أن الإقبال على نشر المقالات الفكرية الجادة، تراجع حتى على مستوى نسبة كبيرة من الصحف والمجلات الورقية، وساد نوع من اللاجدوى من التفكير والتعبير الرصين عن الأفكار التي تحمل في طيها الجدة والقيمة الموضوعية التي من شأنها أن تجعلنا نخطو نحو الأمام، نحو غد يبعث على الاطمئنان.
حقا إننا نعيش عصر الصورة بامتياز، صرنا نستهلك الصور والفيديوهات أكثر من التعبير الكتابي المطبوع بالتأمل والفكر، هذا التدفق للمادة المصورة الذي لا حدود ولا نهاية له، قد يكرس لا محالة وضعا خاصا، وقد صرنا نلمس بعض مؤشراته في الأفق، يتمثل في العزوف عن كل ما هو مخطوط ومكتوب، والاكتفاء بالتواصل عن طريق الرسائل القصيرة، والتدوينات السريعة التي من الصعب رسوخها في الذهن، بالنظر إلى الظروف التي تنشأ فيها وكذا في الظروف التي يطلع عليها المتلقي، أخذا بعين الاعتبار أن الذات الإنسانية تتعود على الشيء من فرط استخدامه، خاصة إذا كان يتم بطريقة يسيرة ومسلية.
إن اكتساب عادة التلقي التي تستند إلى ما هو مصور دون غيره من أشكال الخطاب، سيؤثر لا محالة على مستوى التحصيل العلمي والمعرفي.
من الصعب اليوم أن نقنع فئة من الأجيال الجديدة على وجه الخصوص، تلك التي فتحت عيونها أول ما فتحته على التكنولوجيا الحديثة وعلى وسائط الاتصال الرقمية وتشربتها وهي لا تزال في أرحام أمهاتها، من الصعب إقناعها بأن التلقي اعتمادا على الكتاب الورقي للمؤلف الذي يعتد به، هو أكثر نجاعة وأعلى قيمة مما تعرضه الوسائط الافتراضية دون التأكد من حقيقتها أو زيفها.
صحيح أن الوسائط الافتراضية الحديثة لها دورها الأساسي، لكنها بحاجة إلى تقنين وتنظيم، كما أنه ليس من المفروض الاعتماد عليها كليا من أجل التحصيل العلمي والمعرفي، بالنظر لما قد تحمله من أفكار مغلوطة نتيجة غياب الرقابة.

عبدالعالي بركات

[email protected]

Related posts

Top