يقول الأديب الحبيب الدائم ربي في تقديمه المجموعة الشعرية “سيمفونيات” للشاعرة المغربية حياة نخلي: (إن ما يعنينا هو أن تعزف الشاعرة “سيمفونيات” على وتر الجرح الساكن طي الحنايا، لهذا أتت قصائدها حزينة اسيانة، تشكو الزمن “الغدار” وخذلان الأقارب والأباعد، و تساءل الحياة والوجود، لكنها ما تنفك تمجد الحب كقيمة إنسانية مرجأة في حياتنا.)
المجموعة الشعرية “سيمفونيات” التي صدر جزءها الأول سنة 2017 هي التجربة الثانية للشاعرة حياة نخلي بعد ديوانها “ترانيم الروح” الصادر سنة 2011 ويقع ديوانها “سيمفونيات” في مائة واثنين وأربعين صفحة، من الحجم المتوسط، و يحتوي على اثنين وستين قصيدة موزعة على ثلاث سيمفونيات وهي سيمفونية عشق وسيمفونية شجن وسيمفونية الآهات.
وعندما نتصفح ديوان الشاعرة حياة نخلي “سيمفونيات” الذي يمكن اعتباره الإصدار الذي كان له الأثر الواضح في رسم معالم طريق الشاعرة وانطلاقتها الفعلية في الساحة الشعرية، فإننا نسبح من خلال معزوفات حرفية ساحرة، صيغت نوتاتها بكل دقة وحساسية، لتجعلك تهيم في يم دافق من المشاعر الإنسانية التي تراود أي محب للحياة بصفة عامة وللذات بصفة خاصة، فهي شاعرة مرتبطة بالعشق لدرجة الغليان الروحي كونها ترى الكون فرح يفتح أبوابه للسفر فيه رغم الجراح والبعد والخيانة والفراق، مؤججة فيها نار الحنين والشوق لتتحول لآهات متدفقة من بين ضلوعها كألسنة اللهب، آهات حالمة بلقاء قصير يكحل أهدابها، متخطيا كل الحواجز ليلملم رحيق الحب في غفلة من الزمن. فكل قصيدة بالديوان لها نبرتها، ودلالتها في التنوع من حيث المكان والزمان وكذا الشخوص والذوات، لكننا نجدها تلتحم وتتجمع حول سياق واحد ومحاكاة واحدة تتجلى في الذات الأنثوية ومحاكاتها للذات المكسورة والتقلبات التي تواجهها، من خلال تموجات شاعرية يغلب عليها الأسلوب المرهف والأحاسيس الجياشة، كما في قصيدة “عاصفة القلب”:
“أسيرة هي لواعجي/ ثائرة حائرة/ تسبح في يم مجهول/ وهدير موج بلا ماء
صخب فلاة/ و مجذاف يائس/ يقاوم كثبانا من سراب”
إنها بكل بساطة سمفونيات تخالط هوس الإيمان بالفرج والشعور بقرب الأمل والفرح والعشق والخيال المجسد لتناغم الذات باستخدام الرموز، بأسلوب بلاغي رفيع طغى فيه استخدام محسنات البديع والبيان من تشبيهات واستعارات وانزياحات وسجع وتضاد، وأحيانا تكرار لبعض العبارات الدالة والقوية، لتأكيد الحضور و تيمة الديوان العاكسة للقيم الإنسانية وتمجيد الحب رغم الشكوى و مساءلتها للحياة و الوجود، تقول في “سمفونية عشق”:
ما بين الصمت والألم/ فسحة أمل/ تملأ شفقا/ وتضيء عتمات السرى/ فالشمس لم تترك يوما السماء/ ولم تخن الأحلام الضياء”.
لقد أغرقت حياة نخلي جل قصائدها تقريبا في حزن وشجن، شجن غير جارح، يتأرجح بين الذات الشاعرة الحزينة والمنهكة والذات الإنسانة، كأنثى التي تطلب إنصافها من خلال أحاسيس وهاجة ترسم بموجبها خارطة مستقبل حالم، يتغنى بالحب المباح بدون حدود، حب للذات نفسها وحب للذات الجماعية، كما تقول في قصيدتها “سأعود”:
“سأعود/ وفي أحضاني ألف قصيدة/ وأشكل على أديم السماء
ابتسامة/ لأفتن العالم بملامح الشفق/ وبأناملي سأنسج عباءة الفرح
لتلبسها بردة الليل/ وتعزف على نبراتها/ قطرات المطر”.
إن من يقرأ شعر حياة نخلي يجد فيه سحر وجمالية الكلمة الذي وظفته من خلال اختيارها ألفاظا منتقاة بعناية بالغة، فضلا عن استثمارها للمعجم الشعري والأساليب الفنية، محولة بذلك قصيدتها للوحة تتراقص حروفها مهما كانت دلالة تعبيرها، سواء كانت عن المعاناة والهموم التي تتخبط فيها الذات، كما في قصيدتها “بلايا”:
سحابة تجول/ لتحط الرحال/ في سماء الورى/ عبثت بالشمس/ وحجبت الضوء/ عبثت باليم والثرى/ أمطرن ألما/ ودما”.
أو كانت عن قضايا عربية بدلالات جد عميقة، يجتمع فيها النسق اللغوي والتعبير الوجداني المشحون بالعشق الدفين، كما تعبر عن ذلك في قصيدتها “هل ستعودين يا أمتي”:
نهبوك يا أمتي/ قتلوك/ خضبوا ثراك بالدماء/ رقصوا على جثت الشهداء/ قتلوك يا فرحتي/ نشبوا مخالبهم في أحضانك/ ومزقوا أوصالك/ شردوا أطفالك/ وقتلوك”.
ألفاظ مختزلة وقوية الدلالات تبرز تشبث الشاعرة بعروبتها وقوميتها التي هي جزء لا يتجزأ من وطنيتها، دلالات يمكن اعتبارها وصف للحالة ونداء للاستجابة للضمير العربي الذي أضحى شبه غائب عما يجري في أوطانه.
لتبقى مرتكزة الحب لديها ضمن باقي المرتكزات التي تمت الإشارة إليهما “المعاناة والعروبة ” محور ديوانها حيث نجد الحب لديها متجسدا في كل ما هو رائع وجميل “زوج، أبناء، الخير للإنسانية جمعاء، التضامن، التكافل، …” وذلك بلغة سيميائية خاصة، يستطيع معها القارئ أن يسقط معانيها على واقعية ذاته، وانفعالاتها، تقول في قصيدتها “لست أنا”:
وأخبروني أن الهوى مجنوني/ وأنني العطر والشعر/ الجنة والوجود/ أنني حبا بلا حدود”.
هذا الحب الذي تتغنى به الشاعرة بدواخلها، تارة مصرحة به وأخرى ملمحة به نتيجة انكسارات وتضاربات داخلية تجعله بلا طعم ولا رائحة، يصارع آهاتها التي لا تنتهي، وتظل ترقص كطائر جريح لم يتبق له سوى حلم بات من عدم. تقول حياة نخلي في قصيدتها “أحلام زئبقية”:
أحلام رئبقية/ ساورني أنسامها/ تحاصرني ألغامها/ جرعة في فلاة ظامئة/ كيف أغدو وجودا
وأنا مجرد طيف”.
بعبارة أدق يمكن القول إن الذات لدى الشاعرة حياة نخلي من خلال ديوانها “سيمفونيات”، تجسد بكل ما هو جميل في هذه الحياة رغم ما يعتريها من أزمات وصراعات و خيانة ونكران للجميل والمعروف والغي و … إنها ذات تحس بالحب والجمال في أحلك الظروف، بل هو سلاحها من أجل البقاء والاستمرارية، كجندي على قمة جبل، أعزل لكنه يقاوم بكل ما أوتي من جهد ونبل قيم، دفاعا عن ذاته أولا لتبقى صيرورتها، ثم عن باقي من حوله وعن الوطن والمتجسد فيمن تعزهم أوتشفق من حالهم، وهو ما يتجلى في قصيدتها التي كانت بوابة ديوانها “سيمفونية عشق”:
ما بين الصمت والألم/ فسحة أمل/ تملأ الأفق شفقا/ وتضيء عتمات السرى/ فالشمس لم تترك يوما السماء/ ولم تخن الأحلام الضياء”.
> بقلم: محمد الصفى