شاءت الصدف أن يدشن حزب التقدم والاشتراكية دخوله السياسي بإقامة حفل تأبين لفقيد الحزب وأحد قاداته الراحل محمد بن الصديق الذي وافته المنية في غفلة من الجميع، يوم الجمعة 29 يونيو الماضي.
فعاليات تأبين الراحل محمد بن الصديق التي احتضنها مقر حزب التقدم والاشتراكية بالرباط، مساء يوم الخميس الماضي، شكلت لكل رفاقه وزملائه وعائلته، وأصدقائه، لحظة استرجاع جماعية لهول صدمة رحيله الفجائي، الذي كان مزلزلا، خصوصا وأن الفقيد كان في أوج عطائه وفي دروة كفاحه النضالي كعضو منتخب في الديوان السياسي خلال المؤتمر الوطني العاشر، وهي الصفة النضالية التي جاءت تتويجا وامتدادا طبيعيا لمراحل كفاحه التي خاضها طيلة مشواره الذي ابتدأ منذ ريعان شبابه في بداية سبعينات القرن الماضي، حين التحق بصفوف شبيبة حزب التقدم والاشتراكية بمدينة تطوان.
“فقد كان الفقيد قيد حياته، حريصا على التمسك بمواقفه وأفكاره النيرة والوطنية التي تشربها من مدرسة حزب التقدم والاشتراكية، فقد كان صريحا وصادقا فيما يقول، كانت حياته مليئة بالعطاء كمناضل سياسي، وإعلامي مهني وملتزم” يقول محمد نبيل بنعبد الله الأمين العام للحزب، في كلمة له خلال هذا الحفل التأبيني، الذي أدار فقراته بتأثر كبير، رفيق درب الراحل، سعيد سيحدة عضو اللجنة المركزية.
فعاليات تأبين الراحل محمد بن الصديق، التي نظمها حزب التقدم والاشتراكية، بتنسيق مع مؤسسة البيان والنقابة الوطنية للصحافة المغربية، هي أيضا شهادة جماعية في حق مناضل كان قيد حياته متمسكا بقناعته، عنيدا في طرح أرائه، كان جدليا حتى النخاع، وكانت له قدرة هائلة على التحكم في مكانيزمات وأدوات التحليل العلمي، لكنه في الوقت ذاته كان مستمسكا برفاقه وأصدقائه رغم ما قد يحدث من اختلاف في وجهات النظر، فلم يكن، أبدا، الاختلاف في الرأي يهدد علاقته الرفاقية والاجتماعية في أبهى تجلياتها، فقد حمل بين ضلوعه قلبا كبيرا يتسع للجميع رغم اختلاف تعابيرهم ومواقفهم الفكرية والسياسية، ورغم اختلاف مواقعهم الاجتماعية والمجالية.
كانت اللحظة عسيرة، حسب الأمين العام لحزب التقدم والاشتراكية، الذي أكد، في الكلمة ذاتها، على أن الراحل كان قيد حياته، يشتغل في الخفاء، وكان له قدرة هائلة على الكتابة، بالأسلوب المناسب والكلمات المناسبة، والتلوينات الضرورية، للتعبير عن الأفكار والمواقف حول مواضع سياسية شائكة. كانت له، يضيف نبيل بنعبد الله لغة قوية جدا، وكانت له قدرة هائلة على التحكم فيما يريد أن يعبر عنه، بالنظر إلى ما يمتلكه من مخزون فكري ومعرفي ولقدرته على القراءة التحليلية التي كان يستند إليها في طرح التساؤلات الموضوعية التي تساعده على استشراف المستقبل، فقد كان له حس سياسي هائل.
من جانبه، وقف محتات الرقاص مدير نشر جريدتي البيان وبيان اليوم، عند ثلاث عتبات في حياة الراحل محمد بن الصديق.
الأولى كمناضل شاب كلفه رفاقه بتغطية نشاط حزبي، ولما اطلع الراحل علي يعته على ما خطت يد الشاب ابن ترجيست، استقدمه إلى جانبه ليشتغل معه في جريدة البيان بالدار البيضاء، قبل أن يذهب إلى الدراسة في موسكو بالاتحاد السوفياتي سابقا.
هذه العتبة رأى فيها، محتات الرقاص إشارة يتعين التقاطها من قبل عموم الشباب المناضلين، والتي تبرز أهمية القراءة والاجتهاد والكفاءة، وفي الوقت ذاته، تحيل على الثقة التي كان يضعها المناضلين في الشباب وتحفيزهم على تحمل المسؤولية.
فيما العتبة الثانية التي ساقها محتات الرقاص في معرض كلمته، هي اللقاء به في موسكو وكيف استقبله عندما كان متجها للدراسة في العاصمة الاكرانية كييف، وكيف توطدت العلاقة بينهما، حيث كان الراحل حينها منسقا للقطاع الطلابي لحزب التقدم والاشتراكية بالاتحاد السوفياتي أنداك، هذه العتبة بحسب مدير نشر صحافة التقدم والاشتراكية، تحيل على طباع الراحل ودماثة خلقه وحسن سيرته، كما تحيل على كيف كانت العلاقة الاجتماعية والرفاقية، تنسج معه بشكل سلس وانسيابي.
أما العتبة الثالثة التي تحدث عنها الرقاص، هي المتعلق بمسار الراحل المهني كصحفي متميز سواء عندما كان في جريدة البيان أو في وكالة المغرب العربي، حيث كان صحفيا مهنيا حريصا على جودة ما ينتجه، وكانت له عناية خاصة بالمادة التي يكتبها من خلال العناية بلغة الكتابة، وفي الوقت ذاته، كان حريصا على الالتزام بأخلاقية المهنة وكان له حضور نقابي مهم داخل النقابة الوطنية للصحافة المغربية.
بدوره اعتبر عبد البقالي، رئيس النقابة الوطنية للصحافة المغربية، لحظة تأبين الراحل المناضل والصحفي محمد بن الصديق، لحظة يستعصي فيها تطويع اللغة لتركيب جمل ومعاني ذات دلالة تعكس عمق وحقيقة الشعور اتجاه الفقيد، فهي بحسبه، لحظة آسية التي مهما بلغ صدق التعبير منتهاه فإنه يترك قناعة بأنه لم يكن صادقا بما يلائم ويناسب حجم الفقد.
وأورد نقيب الصحفيين المغاربة، في كلمته، أن الراحل محمد بن الصديق كان صحفيا مهنيا، مخلصا لمقومات وثوابت المهنة، من صدق وموضوعية ونزاهة، وكان صحفيا ملتزما سياسيا، ومناضل في صفوف حزب وطني كبير، جايل في نضالاته رجالا ونساء كبار وعظام، مشيرا إلى أن الصحفي الملتزم سياسيا يكون أكثر انضباطا لثوابت العمل المهني لأنه يشتغل في إطار منظومة سياسية متكاملة تدفع إلى الخلف النزعات الذاتية وردود الفعل الشخصية.
وتحدث عبد الله البقالي عن محمد بن الصديق المناضل النقابي في صفوف النقابة الوطنية للصحافة المغربية، حيث كان من رواد الجيل الذي ضمن انتقالا سلسا للنقابة الوطنية من إطار نقابي للناشرين فقط، إلى تنظيم مهني خاص بالصحفيين، سواء داخل جريدة البيان أو في وكالة المغرب العربي للأنباء، مشيرا إلى أنه كان مثالا يحتدى به في العمل النقابي النزيه والنظيف والفعال.
من جانبه، استحضر، عمر الأشهب زميل الراحل وصديقه في وكالة المغرب العربي للأنباء، بعض مناقب الفقيد محمد بن الصديق الذي عرف قيد حياته بدماثة الخلق وحسن السيرة، وأناقة الطلعة، وكان رحمه الله بلغياً في كلمته بشوشاً في ملامحه تأنس الروح لمجالسته وتطمئن له القلوب لطيبة قلبه وإنسانيته المتوقدة.
وأضاف عمر الأشهب، أن الراحل محمد بن الصديق كان نموذجا للصحفي الملتزم بآداب المهنة وأخلاقياتها، مجد في أسلوب كتابته، شديد الحرص على جمالية اللغة، وكان يعبر بسلاسة على جسر الالتزام بين عالم الصحافة وعالم السياسة والنضال الحزبي، مشيرا إلى الراحل كانت له مواقف إنسانية راقية، كان ينبع منها حبه وعشقه للوطن، وكان شديد الانصات للآخر.
وتناول الكلمة في هذا الحفل التأبيني المهيب، الكاب العام لمؤسسة علي يعته مصطفى البرايمي الذي وقف على الجانب المتعلق بحب الحياة لدى الراحل محمد بن الصديق الذي قال عنه “إنه كان محبا للحياة وعاشقا لها، متواضعا تواضع السنابل الملآى بالقمح، وكان صحفيا مسؤولا له من الكفاءة المهنية ما جعل منه متوفقا في مجاله، وكانت له علاقات إنسانية واجتماعية راقية”.
وأضاف مصطفى البرايمي، أن الفقيد محمد بن الصديق كان مناضلا في صفوف حزب التقدم والاشتراكية المدرسة السياسية والفكرية التي انهال من معينها، مشيرا إلى أنه كان من الحافظين لتاريخ الحزب والمحافظين على ذاكرته، وكان واحدا من مؤسسي وقادة مؤسسة علي يعته.
ومن جانب، استحضر عبد الإله التهاني، مدير الاتصال والعلاقات العامة لوزارة الثقافة والاتصال – قطاع الاتصال، مديرا بالنيابة للمكتبة الوطنية للمملكة المغربية، بعص من خصال وصفات الراحل محمد بن الصديق الذي كان، بحسبه صبور على المهمات وعلى الشدائد، يكون حكيما في اللحظات الصعبة، يضيف التهاني الذي اشتغل إلى جانب الراحل بوزارة الاتصال عندما كان قيد حياته مستشارا للوزير محمد نبيل بنعبد الله.
وأورد عبد الإله التهاني في شهادته، أن محمد بن الصديق كان قارئا ناهما، يقرأ في صمت، وكانت له طاقة هائلة على الاصغاء وفهم القصد والخلفيات، مشيرا إلى أن هذا النوع من الرجال قليلون، حيث كان صانعا لنصوص جيدة في الخطاب السياسي والتحليل السياسي وكانت له القدرة على التوليف بين الأفكار والمواقف، وكانت له عاداته التي لا يريد أن يغيرها.
فعاليات التأبين التي عرفت حضورا مكثافا لرفيقات ورفاق الراحل في حزب التقدم والاشتراكية وزملائه في النقابة الوطنية للصحافة المغربية ووكالة المغرب العربي للأنباء، وجريدتي البيان وبيان اليوم، بالإضافة إلى عائلته الصغيرة بنته نادية ورفيقة دربه عائشة السالكي وأخوه بن الصديق، كانت لحظة فارقة بامتياز خاصة عندما ارتقى الشاعر الكبير ادريس الملياني بالحاضرين إلى مستوى اللحظة وسموها من خلال الكلمة الشعرية وعمق دلالتها، وسافر بهم في دروب حياة الراحل محمد بن الصديق.
كلمة ابنة الراحل نادية بنصديق كانت بمتابه سفر في محطات رائعة من حياة الراحل، مزجت فيها بين عطاء زاخر لأب حنون، ومناضل تمكن من المزج بين واجباته المهنية والنضالية ومسؤولياته تجاه أسرته الصغيرة التي رسم لها آمالا وأحلاما ومشاريع منها ما تحقق ومنها ما لم يكتب له أن يرى النور بعد فاجعة الموت التي لاراد لقدر الله فيه.
وشهد الحفل إلقاء شهادة للطالبة إليزابيث بوتيبنيا، خريجة ماستر التواصل السياسي بالمعهد العالي للإعلام والتواصل التي كان الراحل سيشرف على بحثها، لكنه رحل أسبوعا قبل ذلك، حيث استعرضت الطالبة صفحات مشرقة من نضالات بنصديق على واجهة التعليم العالي وطريقة تعامله مع الطلبة وتقنياته المتفردة في تلقين الطلبة وتوجيههم.
كما تم عرض شريط وثائق يؤرخ لحياة الراحل من خلال شهادات لرفاقه وزملائها في الدراسة والنضال سواء بمدينة تطوان أو الدار البيضاء أو موسكو.
فبعد مشاهدة الشريط، والاستماع إلى الكلمات، خرج كل من حضر هذه فعالية التأبين بقناعة رئيسية وهي أن محمد بن الصديق رحل دون أن يعيش اللحظة التي كان يناضل من أجلها، وظل حلمه عالقا وطموحه في وطن ديمقراطي، معافى تسوده العدالة الاجتماعية والتقدم المجتمعي، وهو الطموح الذي سيبقى نبراس مناضلي ومناضلات حزب التقدم والاشتراكية.
كما تناول الكلمة خلال هذا الحفل التأبيني الشاعر المناضل عبد الهادي برويك الذي أقرض قصيدة من نسج قريحته رثاء لفقيد حزب والاشتراكية.
وتناول الكلمة أيضا محمد الخوخشاني القيادي السابق في حزب التقدم والاشتراكية الذي عدد مناقب الراحل كمناضل ملتزم، وكإنسان يتميز بأخلاق عالية منفتح على الآخر.
وفي نهاية هذا الحفل التأبينبي قدم الفنان إدريس الفزازي لعائلة الراحل لوحة تشخيصية للراحل نالت إعجاب الجميع.
> محمد حجيوي
تصوير: رضوان موسى