موسم الهجرة إلى عوالم افتراضية أكثر إثارة من حياتنا الباردة

في مستقبل ليس بعيدا ستصبح حياة الكثير من البشر في العالم الافتراضي أهم بكثير من حياتهم الفعلية. ستكون لهم أدوار ووظائف وأملاك في مدن افتراضية أكثر إثارة وحيوية من المدن الحقيقية، التي ستذوي نشاطاتها التقليدية شيئا فشيئا.
بعد أن تسوق التكنولوجيا معظم الوظائف، سيجد شخص عاطل عن العمل ويعيش في غرفة صغيرة، حياة كاملة ومثيرة في مدينة افتراضية. قد ينجح في امتلاك عمارات أو تسلق السلطة ليصبح عمدة المدينة أو رئيس شرطتها أو مجرما خارجا على سلطاتها وقوانينها الافتراضية.
ستكون حياته في تلك المدينة أكثر واقعية وتشويقا من حياته الفعلية. وسيجد نفسه مثلا في حفلات باذخة يتحسس جميع ملذاتها بإثارة تفوق المتاح في تفاصيل حياته الباردة والمملة. وقد يكون هناك شخص ناجح في الحياة الواقعية ولا يجد سوى دور هامشيّ في العوالم الافتراضية.
التعامل سيكون مع أشخاص حقيقيين بمشاعر حقيقية. ستكون المنافسة أشرس والمكافآت أكبر وكذلك العقوبات التي تصل إلى الطرد والإقصاء من تلك المدن. وقد يعيش البعض في أكثر من عالم افتراضي واحد.
لم يعُد هذا الحديث من نسج الخيال العلمي. هناك بالفعل أعداد متزايدة بدأت موسم الهجرة، مع ترجيح حدوث قفزة تكنولوجية هائلة تفتح أبواب هجرة جماعية واسعة.
إيقاع السباقات التكنولوجية يؤكد أنها أصبح لديها زخمها الخاص المتسارع والخارج عن قدرة أيّ جهة على التحكّم أو تحديد مساراتها المقبلة، لأنها محصلة عدد هائل من المصالح والابتكارات وبحوث الذكاء الاصطناعي، التي تفرض إيقاعها الخاص، الذي لا يمكن إيقافه.
لم تعد الهواتف الذكية ترضي طموحات شركات التكنولوجيا لتحقيق الأرباح، وهي تتسابق الآن للبحث عن اختراق نوعي يلهب حماس المستهلكين، الذين لم تعد الإضافات الهامشية في الهواتف الذكية تثير فضولهم وتدفعهم لشراء أحدث طرازاتها.
هناك مؤشرات ومنذ سنوات على أن نظارات الواقعين الافتراضي والمعزز، ستكون ميدان القفزة الجديدة. وقد ينقلها ابتكار مفاجئ إلى مدار آخر يغير حياتنا بدرجة تفوق جميع ما حدث في تاريخ البشر بآلاف المرات.
وتشير محصلة آراء الخبراء إلى أن نظارات الواقع الافتراضي بدأت تتجاوز مرحلة كونها تقليعة هامشية باهظة الثمن، وبدأت تنتشر كوسيلة ترفيه منافسة بعد أن دخل عليها العامل الاجتماعي، أي التعامل مع انفعالات بشر حقيقيين.
هناك إجماع على أن تقنيات الواقع الافتراضي ستحدث زلزالا كبيرا في طبيعة الحياة على هذا الكوكب، وخلق حياة موازية يتدفق إليها مئات الملايين ليعيشوا مع أشخاص بمشاعر “حقيقية” في مدن أكثر إثارة من مدننا الواقعية التي سيخبو بريقها وتختنق بالمشاكل والأزمات.
يبدو التسارع الانفجاري في التطورات التكنولوجية مخيفا، من ناحية قدرة البشر على استيعابه وهضمه في منظومة حياتهم الغريزية والاجتماعية، التي بنيت بطريقة تدريجية على مدى ملايين السنين.
قريبا ستصبح الثورات العلمية المذهلة التي شهدناها، بدائية مقارنة بما يتبلور في المختبرات حاليا، ليكون في المتناول خلال السنوات المقبلة، وخاصة من خلال قفزة “خطيرة” في الواقع الافتراضي.
سيتدفق عشرات وربما مئات الملايين عبر بوابات العالم الافتراضي ليتفاعلوا مع أشخاص مثلهم بمشاعر “حقيقية” دون أن يغادروا مقاعدهم. ستكون هناك قواعد وقانون وقيم أخلاقية، لكنهم سيكونون أقدر على انتهاكها وارتكاب جرائم افتراضية هائلة مثل القتل والتفجير دون الكثير من الخوف والتردد.

تداعيات خطرة

سيكون هناك أشخاص ضعفاء في الواقع وربما جبناء، لكنهم جبابرة في ذلك العالم وأشخاص أقوياء يتعرضون للاضطهاد والسخرية والإساءة في قواعد لعبة العالم الافتراضي.
وستكون لذلك تداعيات وعواقب اجتماعية واقتصادية، حين يقضي كثيرون معظم أوقاتهم في عوالم افتراضية، فتخلو الشوارع وتتراجع حركة والسفر، وتنهار المطاعم والمقاهي والمنتجعات السياحية وأماكن اللهو بسبب غياب الزبائن.
قبل سنوات أنتجت هوليوود فيلما بعنوان “ساروغيتس” (surrogates) حيث يقبع الناس في بيوتهم، ويخرجون إلى الشارع بهيئة روبوتات، يختارونها كما يشاؤون، فتختار شابة رقيقة هيئة رجل مفتول العضلات، ويختار رجل كبير السن هيئة شابة شقراء فاتنة، ويعيش الجميع حياة موازية ومثيرة دون مغادرة غرفة النوم.
في الفيلم ينقسم العالم إلى طبقة مترفة تعيش في عالم افتراضي، وأخرى مهمّشة تعيش في أحياء فقيرة خارج أسوار المدينة، تعمها الفوضى وغياب القانون وتحكمها الميليشيات الرافضة للعيش داخل روبوتات.
ويبدو اليوم أن العالم الافتراضي سيقدّم لنا قريبا، عالما شبيها بذلك الفيلم الخيالي، بعد أن تتسع بوابة العالم الافتراضي فيدخلها الملايين لزيارة مدن افتراضية والقيام برحلات سياحية دون قيود وتكاليف أو حتى مغادرة المنزل.

الرحيل إلى كوكب آخر

سيجتمع أصدقاء للقيام بمغامرات يعجز العالم الحقيقي عن توفيرها وتعجز طاقة الجسم البشري عن القيام بها. وسيخوض أشخاص موزعون في أنحاء العالم مغامرات مثل الخروج للصيد ورحلات مع الأسود في الأدغال أو مع الدببة في القطب الشمالي، أو أسماك القرش في أعماق البحار.
كما سنتمكن من زيارة مدن ومعالم عالمية والتفاعل دون قيود أو فواتير مع أشخاص “حقيقيين” بمشاعر حقيقية. وسنغامر دون إجراءات أمان صارمة بتسلق جبل إيفرست أو أعلى برج في العالم والقفز من القمة والتمتع بمشاعر لا تتيحها الحياة الطبيعية.
عنصر الإغراء الهائل هو إمكانية القيام بأفعال لا تستطيع فعلها الحياة الفعلية والمخاطرة بالتعرض للأذى واحتمال الموت دون أن تصاب بخدش، وتعيش مشاعر الإثارة وكأنها حياة حقيقية.
ويكمن الإدمان الأكبر في زوال جميع القيود وصعود إفرازات الأدرينالين بطريقة لا تتاح إلا لأبطال سباقات الفورمولا 1 والمغامرين الكبار، وهو عنصر قد يجذب مئات الملايين إلى بوابات العالم الافتراضي.
هناك اليوم ألعاب فيديو كثيرة، مثل لعبة “بيبلون: باتل رويال” (بابل: الصراع الملكي) جميع أطرافها أشخاص حقيقيون، يمكنهم التفاعل بمشاعر حقيقية، من القتال في ما بينهم إلى تزويد غيرهم بالأسلحة، حيث تشكّل التجربة الاجتماعية جوهر تلك اللعبة.

التحول النوعي

يرى الكاتب المتخصّص في التطورات التكنولوجية إياد بركات أنّ العالم الافتراضي لم يلق رواجا واستثمارات كبيرة في الماضي، بسبب انطباع بأنه عملية انزوائية تتطلب عزلة المستخدم عن الواقع وعن الناس في محيطه الاجتماعي.
ويضيف أن كون الإنسان كائنا اجتماعيا، يمنع رواج أي منتج لا يساعده على الانغماس في حياة اجتماعية، سواء بشكل مباشر أو غير مباشر، ويجعل انتشاره مقتصرا على شرائح صغيرة من المستخدمين الهواة.
ويقول بركات إن الثورة والاستثمارات الكبيرة التي تحدث الآن في تقنيات العالم الافتراضي، سببها إضافة العنصر الاجتماعي والتفاعل بين المستخدمين إلى قلب الآفاق المستقبلية للواقع الافتراضي.
وتتصدر فيسبوك اليوم السباق إلى العالم الافتراضي، منذ شرائها قبل 4 سنوات شركة أوكولوس المتخصّصة في هذا المجال مقابل ملياري دولار، لتملك بذلك كل المكوّنات الضرورية لإنجاح الواقع الافتراضي وأهمها التواصل الاجتماعي.
وتنبّأ رئيس الشركة مارك زوكربيرغ حينها بأن يصبح “الواقع الافتراضي المنصّة الأفضل والأنسب لتلبية رغبات الناس، لأنها تضعهم في المركز وتجعلهم يشعرون وكأنهم هناك فعلا مع غيرهم من الناس”.
ويتوقّع زوكربيرغ أننا “سنعيش قريبا جدا، في عالم يتمكّن فيه الجميع من المعايشة المشتركة بمشاهد تشعرك وكأنك في قلب المشهد الحقيقي فعلا”.
ويضيف “تخيّلوا كيف سيتاح للجميع الجلوس مع أصدقائهم في أي وقت في البراري حول نار مخيم أو مشاهدة فيلم سينمائي من الواقع الافتراضي… تخيّلوا كيف ستتمكن مجموعة من عقد اجتماع عمل في أيّ مكان في العالم دون مغادرة مكاتبهم”.
آفاق لا نهائية

هذه الآفاق الهائلة دفعت أكبر شركات التكنولوجيا مثل غوغل وسوني وأتش.تي.سي إلى التسابق لفتح أبواب المستقبل أمام الواقع الافتراضي وجعله منصّة أساسية لأعمالها.
ويرى أندرو هاوس، مدير التفاعل الترفيهي في شركة سوني أنّ الواقع الافتراضي يوشك أن يحقق قفزة نوعية ليصبح في متناول الجميع وجزءا من الفضاء الاجتماعي والاقتصادي العام”.
ويحظى الواقع الافتراضي اليوم باهتمام الشركات والعلماء والمخترعين ووسائل الإعلام، لكن بعض الخبراء يتوقعون أن تتراجع مكانته أمام تقنية أخرى منافسة هي “الواقع المعزّز” بعد النجاح الهائل للعبة “بوكيمون غو” للواقع المعزز.
ويتوقع رئيس شركة أبل، تيم كوك أن يكون الاهتمام بالواقع المعزز أكبر بكثير من الواقع الافتراضي، لكنه يرجّح أن يحتاج ذلك لوقت طويل للانتشار على نطاق واسع. وهناك تكهنات بأن أبل تستعد لتقديم قفزة ابتكارية في نظارات الواقع الافتراضي والمعزز.
ويرى مؤلف كتاب “التواصل في عصر الواقع الافتراضي” فرانك بيوكا أن الواقع الافتراضي يمثّل نقلة نوعية كبيرة في علاقة الإنسان بالكمبيوتر، لأنه يمنح المستخدمين شعورا أكبر وأعمق بالاندماج في التفاعل الاجتماعي”.

فوائد علمية وعملية

أما على صعيد الفوائد العملية، فإنّ تقنيات الواقع الافتراضي ستساعد الأشخاص على الالتقاء افتراضيا رغم المسافات التي تفصل بينهم، وكأنهم في غرفة واحدة. وتعمل وكالات الفضاء على استخدام الواقع الافتراضي لمحاكاة تجربة الهبوط والعيش على كوكب المريخ، لمساعدة العلماء على فهم الكوكب بشكل أفضل.
ويستخدم ديفيد لايدلو في جامعة براون الأميركية الواقع الافتراضي لبناء نسخ من الأماكن الأثرية، ليتسنّى للباحثين دراستها. وتختبر غوغل مشروع “إكسبيدشنز” ليستكشف الطلاب المعالم العالمية خلال دروس التاريخ والجغرافيا.
ويمكن استخدام تقنيات الواقع الافتراضي في تدريب المهندسين من كافة الاختصاصات مثل تجوال المهندسين المعماريين داخل المباني، أثناء التصميم وقبل تنفيذها.
كما تتيح للأطباء تشريح جسم المريض افتراضيّا مثل مراجعة البنية التشريحية للدماغ البشري قبل إجراء العمل الجراحي، إضافة إلى فهم آلية عمل العقاقير على مستوى الخلية. ومن المتوقّع أن تصبح هذه التقنيات متاحة خلال سنوات قليلة.
وستقلّص تقنيات الواقع الافتراضي حاجة رجال الأعمال ومسؤولي الشركات للسفر وعقد الاجتماعات المباشرة، بل إن الطلاب سيحضرون إلى قاعات الدراسة افتراضيّا دون مغادرة المنزل.
ويؤكد هنري فوكس الأستاذ في جامعة نورث كارولينا، إمكانية بناء مكاتب افتراضية شبيهة بالمكاتب الفعلية، تجمع الموظفين للتفاعل في ما بينهم، وكأنهم داخل مقر الشركة، دون اعتبار للمسافات.
ولإشراك جميع الحواس في المشاهد الافتراضية طورت شركة “فيلريل” قناعا قادرا على إصدار الروائح مثل رائحة الاحتراق عند اقتراب المستخدم من مشهد نار افتراضية، إضافة إلى جميع المؤثرات الصوتية.
وتتسابق التقنيات لتجعل المستخدم قادرا على الشعور بملمس الأجسام الافتراضية لتعزيز انفصاله التام عن الواقع والسماح للخيال بالتحرك بحرية تامة في الواقع الافتراضي.
ومهما كانت فوائد وإغراءات هذا العالم الجديد، فإنه سيقذف الكثير من التحديات الاجتماعية والاقتصادية، التي قد لا يستطيع الإنسان التأقلم معها، فتؤدي إلى هزات عنيفة للمجتمعات.
وقد تؤدي لانقسام البشرية بين مجتمع يعيش في العالم الافتراضي، وآخر يعيش في الهامش، وقد تظهر أيديولوجيات وعقائد تتناقض وتتصارع بسبب موقفها من ذلك العالم الافتراضي.

Related posts

Top