لقد أصبحت الضرورة ملحة اليوم وملزمة للفصل بين مفهومين يشكل واحد منهما جزءا من الآخر، ثم إعادة النظر في تحليل المتخيل الاجتماعي حولهما. والأمر يتعلق بكل من مفهوم “المجتمع المدني” و”النسيج الجمعوي” بالمغرب، على اعتبار أن الجمعيات هي جزء من المجتمع المدني “micro” وليست المجتمع المدني ككل “macro” وذلك بالوقوف على أبرز الأفكار التي تشكل مرجعية ودلالة جعلت من الاعتقاد السائد، بل الجزم في كون الجمعيات -كجزء- هي المجتمع المدني نفسه، وهي الممثلة الوحيدة لأدواره.
تثير كل محاولة للوقوف على مفاهيم مكونة للمعجم السياسي/المدني المغربي، أسئلة ذات طبيعة استشكالية، تتطلب مقاربة مفاهيمية من الجانب السوسيولوجي، نظرا لارتباطها بالمتخيل الاجتماعي كظاهرة اجتماعية.
فالحديث عن “العمل الجمعوي”، بمثابة المجتمع المدني أو بمثابة الجزء المهيمن عليه، ينطلق في حد ذاته من تصور المتلقي المغربي، تصور بناه من خلال الخطاب الرسمي، والذي يقدم –عن قصد- كون الجمعيات أو النسيج الجمعوي هو المجتمع المدني ذاته، في تحد للمفاهيم الغربية المؤسسة لنظرية المجتمع المدني منذ ظهوره في القرن الثامن عشر.
وقد تمت الإشارة إلى كون هذا الخطاب مرر عن قصد، كونه يحمل تأليها مفاهيميا، وتضخيما كبيرا للعمل الجمعوي، على الرغم من أن نتائج وطرق بروز هذا المكون، لا تتوفر فيها الشروط والمرتكزات الإلزامية لقيامه. أما من حيث الممارسة ومقارنة نتائجه على مستوى الواقع، فإن الهوة تتسع من خلال هذه المقارنة، خاصة الغموض الذي يلف المفهوم من جهة وخصوصية البيئة التي تستقبله من جهة أخرى.
إن ما يجعل المواطن/ المتلقي يعتقد يقينا أن المجتمع المدني هو الجمعيات، وأن الجمعيات هي نفسها المجتمع المدني، مرده إلى تبعية الثقافي والاجتماعي للسياسي، وبعده تبعية المدني للسياسي. فالخطاب الموجه والممارس لا يتحدث إلا بجزء يخص العمل الجمعوي يعممه على ما هو مدني، ليكرس التبعية والخضوع، من خلال هيمنة الأحزاب السياسية، ووضع خريطة تحرك وتقيد عمل الجمعيات. وحتى إذا ما نظرنا إلى زاوية العلاقة بين الدولة والمجتمع المدني، فإننا سنسجل لا محالة ذلك التنافر القائم بينهما، ومحاولة تقزيم مفهوم نظر له الفلاسفة والمفكرين منذ قرون، مكرسين تبعية المدني للسياسي.
إن من أهم الشروط التي بموجبها يتحقق العمل المدني، ويمارس من خلاله كل جسم ينتمي للمجتمع المدني نشاطه، هو شرط “الاستقلالية”. إلا أن النسيج الجمعوي أضحى يشكل كتلة ناخبة مهمة، ووسيلة في يد الأحزاب والأعيان والسياسيين، يطبع عمله المحسوبية. فالجمعيات على كثرتها تعتبر معادلة مربحة ورقم يقلب الكفة، في ظل الممارسات المجتمعية التي تعرفها العملية الانتخابية (الزبونية، القبلية، السلطة، المال…).وعليه، بدل أن تشكل “الجمعيات” – كمكون أساسي داخل المجتمع المدني- سلطة مُمأسسة ومستقلة، وبعيدة عن خدمة أي أجندات، وتمرير أي إيديولوجيات من خلال أنشطتها، نجدها تكرس السلطة بمفهومها السياسي، كظاهرة سائدة اجتماعيا وحزبيا.
وحسب التقارير الصادرة سنة 2016/2017 حول عدد الجمعيات، فإن العدد في ارتفاع مهول، ولحدود السنوات أعلاه، فقد وصل عدد الجمعيات إلى 130.000 جمعية، عدد تطرح بخصوصه أكثر من علامة استفهام، حول طرق الدعم والتمويل الخارجي على الخصوص. وأمام هذا الوضع، وأمام التزايد الكبير للجمعيات، فالمشاريع الحكومية غير قادرة على احتواء النسيج الجمعوي، وغير قادرة على توفير الدعم الذي يوزع دون مراعاة للمشاريع ولا للبرامج، ولا لنوع الجمعية وعدد الأنشطة الممارسة طيلة السنة. مما يفتح الباب على مصراعيه أمام التمويلات والمساعدات الأجنبية.
إن الترويج للخطاب الرسمي الذي يتناول الجمعيات الحزبية على وجه الخصوص، والنسيج الجمعوي عامة، قد أحدث تركيبة مفاهيمية مشوهة، وزاد من تنقيص مفهوم المجتمع المدني كموضوع له خصوصيته المتعارف عليها. فهذه “التكتونية المفاهيمية” ستزيد لا محالة في عمق المسافة بين الخطاب حول المجتمع المدني، وبين ما يمكن أن يحققه هذا الخطاب على أرض الواقع. فالجمعيات المدنية على غرار ما أنشأت من أجله – قصد تقوية الخصائص الذاتية للنسيج الجمعوي، وتشكيل سلطة مدنية من خلال العمل المستقل، وتكريس ثقافة اجتماعية، تليها ثقافة الممارسة المدنية- نجدها قد وضعت كآليات لدى الأحزاب السياسية لتجميل تشوهات الديمقراطية التمثيلية. وهو ما يعني أن هذه الجمعيات جزء من المنظومة الحزبية وليست مكونا مدنيا مستقلا بذاته ينتظر منه المساهمة في تكريس ثقافة العمل المدني. والملاحظ في هذا الصدد أنه تم إفراغ تلك البنية التي كادت تتشكل في النسيج الجمعوي، وإفراغ الجمعيات من هدفها، لتتحول نسبة كبيرة من النشاط الجمعوي، إلى نشاط مدفوع الأجر ومفتقدا للاستقلالية. لقد أفرزت هذه المتغيرات ساحة ضخمة للجمعيات، عبر توزيع المنح الموسمية، نتج عنها خلق كيان هجين قائم الاسم دون بنية تميزه كما هو الشأن في التجارب المقارنة.
إن إشراك جمعيات المجتمع المدني في خدمة الشأن المحلي وعبره المساهمة في تنمية وخدمة الصالح العام، هو ما يجب العمل عليه من خلال التكوينات المستمرة والبرامج الحكومية السنوية. وإذا كان المال يشكل عصب السياسة، فإن “العمل الجمعوي” خاصة والمجتمع المدني القائم بذاته، سيشكل عصب المجتمع. فالدولة ومؤسساتها مهما كان لها من الإمكانيات فإنها تبقى عاجزة، وغير قادرة على مواجهة الكم الكبير من المشكلات الاقتصادية والاجتماعية دون إشراك حقيقي لمجتمع مدني قوي ومستقل.
محمد الهشامي