مع دخول الانتفاضة العراقية شهرها الثالث، بعد انبثاقها في الأول من شهر أكتوبر من العام الجاري. ومع كل هذا العدد الكبير من الضحايا، بما يفوق 480 شهيدا، وأكثر من 27 ألف جريح. لم تجد السلطات الحاكمة من وسيلة لتحطيم جدار الصمود الفولاذي، الذي واجههم به شباب الانتفاضة، غير الخداع والمراوغة السياسية الفاشلة، واللعب بأوراق باتت محروقة.
إنهم يحاولون إظهار انصياعهم لمطالب المنتفضين، من خلال إجراء بعض التعديلات على قانون الانتخابات مثلا، لكن المناقشات التي تجري، تظهر أن نية التغيير الحقيقي ليست موجودة. فالآليات المستخدمة في ذلك هي نفسها التي أتت بالقانون القديم والمعمول به حتى الساعة، ما يعطي انطباعا مؤكدا على أن إجراء بعض التغيرات هي في جوهرها ليست من أجل التغيير. والسبب في ذلك أن البنية السياسية للنظام القائم، هي التي تتصدى لهذه المسألة. وهذا يجعلنا أمام مظاهر شكلية من التغيير، ليس الهدف منها تثبيت حالة سياسية جديدة في البلاد، بل الهدف الحقيقي هو امتصاص السخط الشعبي وإدارة الأزمة الراهنة، بشكل يعيد إحكام سيطرة النظام السياسي القائم على المجتمع. كما يعيد إنتاج وسائل الحفاظ على أسس النظام وعناصره. وهنا تندرج تحت هذه المحاولة استقالة رئيس الوزراء السابق عادل عبدالمهدي، ومن ثم تقديم مرشحين للمنصب هم، من المنظومة السياسية نفسها، في حين أن مطالب الجماهير المنتفضة واضحة بعدم القبول بأي من عناصر النظام القديم.
إن النظام السياسي القائم يضغط بشتى الوسائل للحفاظ على استمراريته، كما يحاول قطع الطريق على أي مناقشة تستهدف ديمومته حتى على المدى الطويل، بدليل انه طلب من عضو في حزب الدعوة ووزير سابق، الاستقالة من الحزب كي يتم طرحه كمرشح مستقل لمنصب رئيس الوزراء، بمعنى أنه يحاول تغيير المظهر الخارجي لمرشحه كي يصبح مناسبا للقياس الذي أعلن عنه المتظاهرون في الساحات، ما يؤشر إلى عدم وجود أي جدية في التعامل مع مطالب الشعب، وان كل التحركات التي نراها على المسرح السياسي، هي مجرد محاولات لكسب الوقت، بغية الالتفاف على المطالب. كما تعني رفضا مطلقا للقبول والتعايش مع الواقع الجديد، الذي رسمته الانتفاضة، وهو مسار مفهوم، لأن من يسيطر على الوضع السياسي، ويمنع أي حالة تغيير ذاتية في النظام، هو العامل الخارجي، حيث لايزال المركز الحقيقي للسلطة كامنا بيد هذا العامل، الذي يواصل التمتع بنفوذ واسع ومتماسك في الشأن العراقي. لقد اعتقد النظام القائم أن مرور أكثر من ستة عشر عاما من الفشل السياسي والاقتصادي والأمني، واستمرار النهب وسلب الثروات والإقصاء والتهميش والقتل العمد والتغييب، من دون وجود انتفاضة عارمة وشاملة، على غرار ما يحصل اليوم في ساحات التظاهر، مرده وجود ضعف بنيوي في المجتمع العراقي، وأن الخنوع والرضوخ بات سمة من سماته. ومازال على هذا الاعتقاد، على الرغم من الحراك الشعبي القائم. ولهذا السبب راح يلعب على تقديم عناصر من بين صفوفه، لتسلم منصب رئيس الوزراء، ظنا منه أنه قادر على ممارسة سياسة التخدير للالتفاف على المطالب الجماهيرية. وبالتالي يمكن أن يلتهي بها المجتمع حتى تذوب التظاهرات في خضم هذه الألاعيب السياسية. لكن النظام نسي أن عامل الثقة قد بات معدوما تماما به، من قبل الشعب ليس اليوم، بل منذ ذلك العزوف الكبير عن المشاركة في الانتخابات الماضية، التي كانت إشعارا بأن ولاية هذا النظام السياسي قد ولت إلى الأبد.
تصميم الشارع العراقي يختزل كل الاحباطات التي تختزنها النفوس، وهو عامل استنهاض ثوري للمجتمع كي يشارك في استعادة وطنه المنهوب
إن قواعد اللعبة السياسية، التي كُتبت في واشنطن وطهران ودول غربية عام 2003 لم تتغير حتى اليوم، وبات تغييرها ضرورة شعبية مُلحة. فالمجتمع العراقي مجتمع شاب، وهذه الفئة العمرية تشكل نسبة عالية من مكوناته، وبالتالي لم يعد باستطاعة النظام القائم الحصول على الشرعية، من خلال دغدغة الغرائز الطائفية والقومية، أو من خلال الخطابات التي تبثها الرموز، التي تتغطى بالقدسية الدينية، فهنالك هوّة كبيرة بين من خرج إلى الشارع ومن يتولون السلطة في البلاد. فقد حولت السلطة العراقيين من مواطنين في دولة إلى مواطنين في دول الطوائف، لأن زعماء الطوائف والميليشيات باتوا زعماء دول داخل العراق. كما باتوا حُماة ومشاركين للفاسدين وسرّاق المال العام، إلى الحد أن القضاء والإعلام باتا متأثرين أيضا بهذا الجو، لذلك لم نجد زعيم كتلة سياسية أو ميليشيا أو أي رمز اخر قد تمت إحالته إلى المحاكم، بما يقترفونه يوميا من جرائم، بل اقتصر الحساب على صغار الموظفين في السُلّم الإداري.
إن تصميم الشارع اليوم يختزل بشكل واع كل الاحباطات التي تختزنها النفوس، وهو عامل استنهاض ثوري للمجتمع كي يشارك في استعادة وطنه المنهوب، وقد تحوّل هذا التصميم إلى فعل تغييري، مكّن المشاركين فيه من إنجاز أفعال ملموسة على أرض الواقع. فلأول مرة تختفي الرايات الطائفية والحزبية والمليشياوية وصور الرموز الدينية والحزبية، وترتفع فقط الراية الوطنية في الساحات. كما ولأول مرة يرسم المنتفضون حقيقة المجتمع العراقي على أرض الواقع، في مجتمع مُصغّر يضم الجميع من كل الجغرافية العراقية، بعيدا عن التسميات الثانوية، ما يشير إلى أن الانتفاضة قد أسست فضاء تعبيريا جديدا يُعبّر عن معنى الاحتجاج والانتفاض والثورة، بإرادة التغيير الجذري. حتى القيود الشعاراتية التي كانت حكرا على اتجاهات سياسية وأيديولوجية محددة كسرتها الانتفاضة العراقية، وباتت الشعارات المرفوعة شيئا آخر يُعبّر عن حجم الألم لبسطاء الناس والطلبة والعمال والمثقفين. وكانت ميزتها الأساسية أنها ليست شعارات مطلبية ومناطقية، بل عابرة لكل الحدود والهويات الفرعية، وصولا إلى (أريد وطن)، لأن أساسيات الحياة في أي بقعة من الأرض تبدأ عندما يكون لديك وطن.
إن هذا التصميم الذي يبديه الشارع في رفض مرشحي السلطة وزبانيتها، هو رسالة إفهام وإقناع للجميع، بأن الشارع قادر على التغيير. وأن الإحباط الذي كان سائدا من الواقع المعاش، يجب أن يتغير اليوم. والتغيير سيكون أسرع عندما ينتظم الجميع في بؤرة التصميم هذه. وأن المطلوب اليوم هو شخصية من خارج النادي الطائفي والميليشياوي، ومن خارج الاصطفاف العمودي لزعماء الأحزاب والميليشيات، الذين اتخذوا من السياسة وسيلة لتصفية الحسابات ولتقاسم الثروات وتوزيع جغرافية الوطن على الحاضنين الدوليين والإقليميين.
الحذر كل الحذر من دخول بعض القوى السياسية إلى التظاهرات، والإعلان عن تبنيها لأهداف الانتفاضة، في حين كانوا حتى الأمس من دهاقنة العملية السياسية. والحذر كل الحذر من الإعلاميين والمتحدثين بالشأن السياسي، الذين كانوا حتى قبل الانتفاضة بيوم واحد أبواقا للعملية السياسية ولرموزها، وأمسوا اليوم يتغنون بالمطالب الجماهيرية ويظهرون على الإعلام بعنوان (سياسي مستقل).
مثنى عبد الله
كاتب عراقي