“غرافيليا” لمؤلفها ماجد الخطيب، مسرحية صغيرة الحجم، كبيرة المعاني، واقعية العرض والتصوير، ذات دلالات مباشرة، تتسلل إلى قلب القارئ بهدوء وسلاسة، فلا يُحس بتطفلها، ويتفهمها حالاً، ويُخيّل إليه لبساطتها وسهولة مراميها كأنه يعرفها، قد اطلع عليها من قبل، لكنها لا تركن إلى ذلك، بل تستفزه بقوّة، كأنها مرآة ينظر فيها إلى صورته، فيصرخ حالاً ومن دون تفكير، أو إعداد لكلماته: «آه أهكذا نحن قبيحون؟ أهكذا نحن مرضى؟ أإلى هذا الحد نخرنا الجذام والأوبئة؟ أهكذا مسخنا؟
إنها صرخة الحقيقة التي تستفزك فتجعلك تفكر، ثم تفكر فلا تجد نفسك إلّا مع المحتجين الشباب، المنتفضين في ساحة التحرير العراقية، وفي المبنى المتروك المطعم التركي، أو في شارع الحمرا في بيروت. إن اعترافنا أو تمادينا في جهلنا، واستغفال ذكائنا، فذلك لا يغير شيئاً من حقيقة أننا متخلفون، تافهون، مازلنا غارقين في الفساد، ومازلنا نزحف في أعقاب أمم كنا نصبو لتجاوزها، لكنها ظلت أبداً أمامنا.
مدرسة ابتدائية للمعوقين، معظم الأطفال مصابون بالمنغوليا والتوحّد، وهذان المرضان لا شفاء منهما، لكن تأثيرهما يخفّ بالتعليم، والتوجيه، والرعاية منذ الصغر، ويمكن أن يعيش المريض بأحدهما حياة عادية إن توافر التعليم الدؤوب والعناية الفائقة والحنان.
المدرسة في مدينة مجهولة في المغرب العربي، لكن المعلم غير مجهول في وسطه، ومدينته، بل حتى في قطره وخارجه، فهو فنان مشهور تعرض لوحاته في أهم معارض المدينة، وفي بعض الدول الأوروبية أيضاً، إذ يزوره وكلاء تسويق اللوحات الفنية من أوروبا.
الفنان فقير لأنه لا يعرف فنون تسويق لوحاته ونفسه، وهذه ليست مشكلة عويصة، فهو يستطيع العيش سعيداً مع مورد قليل، لكن المشكلة تتعقد إن عرفنا أنه محاصر من جميع الجهات. صاحب الشقة التي يسكن فيها ضيق عليه العيش والحياة، منعه أولاً من استقبال أي أنثى، بغض النظر عن التي تقصده، مادام اسمها غير مذكور بعقد التأجير فسواء أكانت أم، أخت، قريبة، بعيدة، لها علاقة بفنه، ترتبط بعلاقة في عمله، فهي امرأة وهو رجل فاللقاء حرام وممنوع. الموسيقى والغناء ممنوعان ممارسة وسماعاً، فلو نسي الفنان لحظة ما، ورفع صوت الراديو، أو التلفزيون على الموسيقى، فسيتزلزل المكان على صاحبه، ربما تتداعى الأركان، ينهار السقف، تهدم الشقة، وبدلاً من محاسبة المهندس وصاحب المبنى وتوجيه اللوم لهما وتأنيبهما لبنائهما الشقق بعيب فاضح، أي بحيطان رقيقة تسرّب الأصوات، ولا تمنع سماعها في الطرف الثاني، لذلك ينصب اللوم والتأنيب والتهديد بالترحيل على الزبون الساكن المسكين، عليه أن يخضع قابلاً بالشقة وعيوبها، وألا يرفع صوت الموسيقى، لأنها تحرف صاحب الشقة المجاور عن ذكر الله، وتصيب زوجته بتغيرات وتوترات وخيالات يبعد انتباهها عن التركيز في صلاتها. البيئة التي يعيش فيها الفنان عادة تتكون من بيته ومحل عمله، وعلاقاته العامة، وها نحن نرى أن بيته أصبح جحيماً بتدخل المالك، بغرض المحافظة على العادات والتقاليد في منع، قيام الفنان بعلاقات عاطفية مع أي فتاة، واستغلاله للموسيقى لتنغيص حياته، وأغلب الظن أنه وجد مؤجراً للشقة بثمن أعلى، إن الضغط على الفنان بهذه الطريقة يعني من دون شك إبعاد تركيزه على فنه. وهذا يشوش عليه، فيحد من إبداعه، ويقلل من جودته، ولكي يحافظ على مستواه عليه أن يبذل جهداً أكبر.
حين أدرك صاحب العقلية الراكدة أنه لم يحقق غرضه، أقنع المديرة بالتهديد تارة، وبالضغط أخرى أن يلغي دروس الفن كلية، فالفن في نظره «يشوش عقول الأطفال وإن أهالي الأطفال لا يفضلون تربية أبنائهم على الفن».
هذا من جهة، أما من الجهة الأخرى فإن مضايقات الفنان لم تنته بعد، فمديرة المدرسة التي تحتفظ بعلاقات وثيقة مع جهات تمول المدرسة في أوروبا لإسباب إنسانية، لأن المدرسة تهتم بالمعوقين، في بلد لا يفرق بين المعوق والصحيح، ويترك المعوق في عوقه، من دون أن يبذل أي جهد في علاجه، وكأنه خلق ليعيش كما هو حتى يموت ويتلاشى. هؤلاء المعوقون استجابوا للعلاج، وتحسنت أوضاعهم، وبدؤوا يدركون ما معنى الرسم والنحت، وما فائدة الكتابة، ثم تغلغل التعليم واللحن في داخلهم، فأخذوا يتفاعلون بجد مع أستاذهم، وطفقت بذرة الفن تتفتح في نفوسهم الغضة، لكن كل هذا مهدد بالزوال، أو الانتهاء لوجود أستاذ يعلم الدين والتراث في المدرسة. معلم لا يرى في ما يتعلم الطلبة المعوقون أي فائدة، فما فائدة الرسم والموسيقى والكتابة لطفل ذي تطور محدود، سرعان ما يتوقف؟
معلم الدين أخذ يفكّر ويخترع معضلات وعقبات ما أنزل الله بها من سلطان، يضعها في طرق الفنان المجد، كي يبعده عن هدفه. ويشغله بمشاكل مسلسلة، فبدأ بالإلحاح على فصل البنين عن البنات، إذ لا يجوز في عرفه وشرعته أن يجلس الجنسان على رحلة واحدة حتى لو كانا في عمر جد صغير، ست سنوات أو أكثر قليلاً، وفي حقيقة الأمر خضع المعلم الفنان لهذه العقبة، فالغاية عنده أن يعلّم الطلبة، ويسقي النبتة الصغيرة حتى تتفتح وتزدهر.
وحين أدرك صاحب العقلية الراكدة أنه لم يحقق غرضه، أقنع المديرة بالتهديد تارة، وبالضغط أخرى أن يلغي دروس الفن كلية، فالفن في نظره «يشوش عقول الأطفال وإن أهالي الأطفال لا يفضلون تربية أبنائهم على الفن».
ولم يفد تذكير المديرة لهذا المتخلف بأن الأطفال حققوا في دروس النحت والرسم تقدماً لا يمكن تجاهله، فهذا لا يهمه، لكنها بزيادة إلحاحه رضخت ثانية فهي لا تحب أن تغلق المدرسة أبوابها باستمرار دروس الفن، عندئذ انتصر معلم الدين نصرا مؤزراً، فبإلغاء درس الفن ضرب عدة عصافير بحجارة واحدة.
الفنان لم يكترث، لأنه يمارس فنه ويتقاضى من بيعه ما يستطيع أن يمارس لعبة الحياة وسط حياة متلاطمة، لكن منغصاته لم تنته، وهو لا يأبه لوجودها بل يقاومها ما أمكنه ويحاول القفز عليها. لذلك استمر بالمشاركة بالمعارض المهمة داخل المدن، كبيرة أم صغيرة، فوجدت بعض لوحاته إقبالاً، وإعجاب وكلاء القاعات في البلد وفي أوروبا، فجاءه غير واحد منهم بغية شراء لوحاته، منهم صاحب غاليري مشهور في باريس، واتفق معه على مبلغ مرض، لكنه أبدى جشعاً واضحاً، فأجبره على أن يدفع الثلث والباقي بعدئذ، لكنه لم يبقَ على كلامه، فأراد أن يقتطع ثمن التحويل إلى أوروبا، وهو مبلغ كبير، ثم أخذ يتحجج بأن سحب أكثر من 300 دولار غير مسموح به، وأخذ يغير رأيه مرة بعد مرة ليستقطع من الفنان قدر ما يقدر ويضعه في جيبه.
ولكثرة العقبات أخذت أحلام اليقظة تنتاب الفنان، فمرة يرى نفسه مع ميكائيل أنجلو، وأخرى مع النبي موسى وثالثة مع سيلفيا بلاث أو بيكاسو، أو فان غوخ، وغيرهم، هؤلاء العظماء يأتون إليه، ويعايشونه ويتفاعلون معه ما يجعلنا نعتقد أنه تجاوز معوقات المجتمع بكافة أنواعها ودرجاتها، وأنه بات في الطريق الصحيح.
هذه المسرحية تعطينا انطباعاً بأن مجتمعاتنا الفاسدة تحتاج إلى هزة قوية حقيقية كالمظاهرات التي تسود العراق ولبنان الآن، وأنها لا يمكن أن تحقق أهدافها من دون رجات قوية، تسقط السائد الملتبس الفاسد الذي يعشش فيه الظلم والتبعية. إنها تضع النقاط على الحروف. فالاكتفاء بإلقاء الضوء على الواقع السيئ، وتعريته لا يلغيه، ولا يغيره بوضع أفضل، وإنما يجب النضال لإزالته بشتى السبل، وبغير ذلك يبقى الواقع سيئاً، وينحدر من سيئ إلى الأسوأ إلى أبد الدهر، فالبشرية تكافح منذ عشرات آلاف السنين من أجل إلغاء استغلال القوي للضعيف، لكنها لم تنجح سوى فترات ضئيلة، في مجتمعات ضيقة.
زينت صفحات المسرحية بلوحات جميلة للفنان المغربي العراقي طه سبع، معـبرة عن أساطير وقضايا فنية قديمة وحديثة أجمل تعبير.
> بقلم: محمود سعيد