يندرج الخطاب الزجلي ضمن التعبيرات الثقافية التي تعبر عن روح الجماعة؛ فهو يوظف لغة شعبية، وينهل من تصوراتها وخيالاتها ورموزها، ويعكس هواجسها وأحلامها.
ولهذا نفترض أن القصيدة الزجلية قريبة من البيئة المحلية، ومن العقليات السائدة، ومن القيم الاجتماعية الملموسة. ومن ثمة، فالمدوّنة الزجلية ذاكرة حيّة تختزن الثقافة الشعبية في أبعادها المعيشة والرمزية.
ونعتقد أن المقابلة بين القصيدة الزجلية والقصيدة الفصيحة يجعل النقد يفتقد كثيرا من المرونة في استكشاف جماليات الزجل، إذ غالبا ما تميل الدراسات النقدية إلى اعتماد آليات نقد القصيدة الفصيحة وإسقاطها على القصيدة الزجلية، سواء أكان هذا في مستوى بلاغتها أوفي مستوى إيقاعها، والواقع أنّ لغة الزجل تمتلك خصوصيتها الإبداعية، وهذا ما يسوغ افتتان كتاب الزجل بالتعبير عن مكابدتهم في الإبداع، فلا يكاد يخلو ديوان زجلي من إعلان واضح للشاعر عن مكابدته في الكتابة، ومعاناته من أجل إقامة سنادها، في طقس يقترب من وصول الصوفي إلى مرحلة الوجد، والذات الشاعرة في قصيدة الزّجل، وإن كانت لا تروم ذلك مباشرة، تعبّر ضمنا عن إحساس بالبحث عن تأسيس لشرعية الخطاب الذي تنتجه.
وإذا ما سلمنا فرضا بأن قماط الشعرية اللغوي ينطلق في القصيدة الفصيحة من النظام الفصيح للغة، بينما تتجه لغة الزجل إلى اللغة الدّارجة، ألا ينزاحان معا عن اللغة المتداولة، ويبنيان صورهما الشعرية انطلاقا من هذا الخرق المتعمد لها؟ ألم تقم القصيدة الحديثة (قصيدة الشعر الحر، قصيدة النثر) بتكسير “قداسات” الإيقاع الخليلي، وتوظيف رموز الثقافات الشعبية والإنسانية، بل ودفعت المتلقي إلى التشكيك في مسلمات اللغة الشعرية الفصيحة نفسها؟
لا نسعى من هذه المقدمة إلا إلى إثارة تساؤلات، تساؤلات عن شعرية الخطابات خارج لغتها “المختزلة”، أو لنستعر العبارة “بلاغتها المختزلة” للتعبير عن هذا اللاتوازن المربك للدراسات النقدية لقصيدة الزجل.
فقد اعتدنا على ربط القصيدة الزجلية بالثقافة الشعبية، مثلما اعتادت كثير من الدّراسات النقدية في الشعر العربي القديم أن تربط الشاعر بقبيلته. كيف يستقيم، إذن، أن نعبر باللغة، نظام الجماعة المشحون برموزها، على شعرية الفرد الثائر على النظم الثابتة والساعي إلى خلق رموزه الخاصة؟ وكيف نعبر بنظام الجماعة عن سخط الفرد عن الجماعة؟
لا شك في أن الأمر ملتبسٌ، فكأنما الذات الشاعرة تختلس قطعا من لعبة البوزل المسماة ثقافة الجماعة لتصنع لعبتها الخاصة، فتخرج عن قانون إيجاد القطع الناقصة وإعادة ترتيبها كما هو الحال في قانون اللعبة.
والواقع أن الإبداع الفردي في عمقه خطاب تغزوه الذات الشاعرة، لتحوز خصوصيتها بواسطة الخطاب، ومن ثمة، فالقصيدة الزجلية التي نفترض مسبقا أنها تعبير عن الكل أو أنها جزء من هذا الكل، قد تكون قبل هذا وذاك تعبيرا عن الفرد الذي يعيد صياغة ما يحيط به في هذا العالم انطلاقا من ذاته ومن عوالمها الداخلية حيث يبحث عن سلام داخلي، بواسطة تحويل اللغة إلى صور رمزية (سرقة قطع من لعبة البوزل).
قصيدة “سحت الليل” للزجال إدريس الزاوي، شبيهة بهذه اللعبة، فهي تشكل رمزيتها في سياق الديوان كاملا، فلا يمكن فصل صور القصيدة الرمزية عن قصائد أخرى، في الديوان نفسه، ولا سيما قصيدتي “حمار الليل” و”لغط الليل”، ففي القصائد الثلاث صور رمزية، تنتصر لقيم النور من دون أن تجعله مقابلا للظلام، وتغرس فرديتها الحرة بين حروف الجماعة. تغرسها في المجازات، وفي التقابلات المدهشة، وفي الرموز البعيدة… يطلق الشاعر سفينة القصيدة في البحر…حاملا من كل كلمة زوجين، ويسير في اتجاه الطوفان، وينتظر رسالة الحمامة وغصن الزيتون، ليعيش سلامه الدّاخلي.
وسنقصر تحليلنا على القصيدة مفردةً؛ لاستكشاف جمالية رمزية الصورة في القصيدة الزجلية المغربية، فقد يسعفنا الاقتراب من النصوص الابتعاد عن مظنوناتنا وأحكامنا المسبقة، أو على الأقل يفرض علينا احترام قوانين اللعبة الجديدة التي نسجها خيال الشاعر، خيال الشاعر وحده.
العنوان اسم لطائر (سَحْتْ الليل)، ومنطق الطير تقليد رمزي تحفل به الثقافة الإنسانية، فمن خلال الطيور بنى الإنسان تمثلاته عن الحكمة والعقل والخوف والمكر… ولأن لكل ثقافة إنسانية رموزها الخاصة، فمنطق الطير الرمزي مشبع بأسطورة الأصل والوجود.
سحت الليل”، وتسميته العربية “الخفاش” أو “الوطواط”” من الكائنات التي أثارت دهشة الجاحظ الذي يرى أنه “طائر أمرد ويطير، على العكس من الديك الذي هو كاس ولا يطير”. ونجد قليلا من الشعر العربي الذي ذكر فيه هذا الطائر، ومنه أرجوزة جميلة للشاعر أحمد شوقي يقول في بدايتها “مرت على الفراش مليكةُ الخُفَّاش فعطفت ومالت واستضحكت وقالت: أزريتَ بالغرام ياعاشق الظلام”، وهي طويلة وممتعة. أما في الشعر العربي الحديث فيستعمل رمزا لأعداء التغيير والتقدم.
يتضمن “سحت الليل” مجموعة من السمات الدلالية، من أبرزها أنّ خروجه يرتبط بالليل، فهو لا يستطيع أن يرى ضوء النهار.
وتشكل ثنائية الظلمة/النور واحدة من تفسيرات الوجود في الثقافات الشرقية.
المقطع 1: الذات المحاصرة في الظلام
“يَمكن هو اللّي شادْني
مَنّي له
محاصرني
ظلمَة، ما نشوف من هنا لهيه
ينَطّق سكوني
شاد في
شاد فيه
شدّه هي عوجه
مهيجة جنوني”
يبدأ المقطع الأول من القصيدة الزجلية بفعل يدل على معنى التردد والافتراض ”
يمكن”، ويليه ضمير الغائب (هو) الذي يحيل على العنوان “سحت الليل”. وبعده يتقابل فعل الذات وفعل “سحت الليل” في حركة صراع مباشر، يتطابق فيها الضميران لإبراز حدّة الصراع وشدته. وقد صاغت الذات الشاعرة هذا الصراع بحروف جرّ تفيد الاتجاه إلى المواجهة، وتتميز من حيث التركيب بالقصر لتقريب المسافة بين الطرفين (منّي له).
تتوازى الجملتان “شادني، محاصرني” تركيبيا، من خلال توظيف الفعل الماضي، وقد فرضت ياء المتكلم نون البعد التي حققت تكرارا صوتيا، أسهم مع ياء المتكلم التي جاءت في موقع المفعول به، في تحقيق إيقاع تفاعلي بين الذات الشاعرة وخصمها، والفعلان من حيث دلالتُها يشاكلان معاني: المعاناة، والضيق، والإحتجاز، وتبين كلمة “ظَلمة” قوة هذه المعاني، وهي إحالة على “سحت الليل” الذي يرتبط وجوده بالظلمة.
ويعكس السطران “شاد في”،” شاد فيه” حركة الصراع بين ذات تسعى إلى الخروج من الظلام، و”سحت الليل” المنذور وجوده على الظلام. يعمد الزجال إلى تكرار الفعل “شاد”، الدّال على القوة في الجذب، لكنه يوزع هذه القوة بين الطرفين المتصارعين، بتوجيه الضمائر (في، فيه)، ويعمق الصورة بواسطة تكرار من خلال مصدر دال على الهيئة (شدة هي عوجة)، ونلاحظ أن التكرار يجلّي قوة الصراع من جهة، ويعزز حضور صورة حدّة الصراع الذي تسعى الذات الشاعر إيصالها والتأثير بها في المتلقي من جهة أخرى. فالذات الشاعرة تصارع الظلام، بوصفه فعلا زمنيا لازما للرمز الموظف (سحت الليل)، وهي محاصرة وسط هذا الظلام الذي يحيط بها. كما أن التشديد على بعض مقاطع الخطاب (شادني، شادّ في، شاد فيه، شدة هي عوجة) من خلال تكرار الصوت المضعف، يوقّع في الأذن حدّة الصراع. ويأتي اختيار الصفات: (شدة هي عوجة) ،(مهيجة جنوني)، لينهض بوظيفة حجاجية، تعرض من خلاله الذات الشاعرة حالتها النفسية؛ إذ يستعير الزّجال صفة “مهيجة” من الطبيعة في حالتها الدّالة على الفوران والانفجار، ليصور بها حالته النفسية من ناحية، ويقابل بهذه “الشدّة” من ناحية أخرى القوة والجبروت اللذين يسمان هذا الصراع، وتضاف الصفة الفاعلة (اسم مشتق للدلالة على فعل التهييج) إلى معمول يدل في الصفات الإنسانية على تجاوز حدود العقل، وهي صفة “الجنون”. (مهيجة جنوني)، تبني الذات الشاعرة أقصى درجات الإنفعال وأقساها، فالجنون وحده لعنة على العقل المقيد لخاصة الإنسان، وإذا ما أشهر جنونه عاد مساويا للطبيعة من حيث إنه يتميز عنها بالعقل.
تختزن الظلمة مضمرات متعددة، منها عدم القدرة على الرؤية، ولعل قارئ الشعر العربي الحديث يرى حضور تيمة البصر والنظر مؤطرة لحداثة شعر الرؤيا التي تنطلق من الحسي إلى العقلي، لكن هذه الهيمنة لم تمنع شعراء كثيرين من الإحتفال بالعمى، لدرجة أن بعضهم أعلن “مانفيستو”: “ليتني كنت أعمى”.
وتلازم العين مقولتي النور والحقيقة، ولكنّ العمى قيمة وجودية أشهرها أوديب في وجه الحقيقة، الحقيقة ذات البعد التراجيدي الذي يسحق كينونة الإنسان أمام أقداره، وإلا لما تاه في الصحراء فائقا عينيه، معلنا أن الظلمة هي عالم للتطهر من الخطيئة الوجودية.
الظلمة، إذن، تدفع إلى الخروج من حالة العقل إلى حالة الجنون، فكيف ستنتقل الذات الشاعرة إلى عالم النور، حيث الحقيقة ليست دائما إلا وهما وجوديا؟
المقطع 2: الذات الهائمة
“على لوح صلصالي نتهجي
سواكن الحال هي شطوني
موجة تلوحني لموجه
هاك شوفتي… هاك ميزاني
نسْحَت الليل
على رموش العين نسافر
ف بحر سكاتي طالق سفينة أحلامي
تتكركب علي أمواج الخاطر
ف بحور ملهجه”.
يبدأ المقطع الثاني من القصيدة بتبئير (لوح صلصالي)، من خلال تأخير الفعل
(نتهجى) وصرفه إلى المستقبل. يقوم البناء التركيبي بوظائف مهمة؛ أولاها استحضار اللوح برمزيته الدالة على القدر (ما يكتب على اللوح)، وتأتي صفة (صلصالي) التي يمكن تقدير يائها للنسبة أو للإضافة للتعبير عن الأصل، الخلق الضعيف للإنسان، وثانيتها: إبراز حجم الذات الإنسانية أمام قدرها، وهو ما يمثله تأخير الفعل الذي يسند إلى ضمير المتكلم المضمر، وثالثتها: تعزيز صورة هذا الضعف بواسطة الفعل (نتهجى)الذي يتضمن انتقاء معجميا يدل على صعوبة القراءة وبداياتها، تماما كما الطفل الصغير الذي يقرأ لوحا للمرة الأولى.
تخصص الجملة الثانية مضمون المقروء في اللوح “سواكن الحال”، وفيها ينتقل الشاعر إلى مستوى من مستويات اللغة الصوفية، وهي لغة وجدانية يصبح فيها العقل تابعا، وهذا ينسجم مع مقطع “مهيجة جنوني”، ومن خلال الصورتين تحقق الذات الشاعرة الانتقال من حالة التفكير الطبيعي إلى حالة الوجد “الحال”، وتنفتح الدلالة على خاصية من خصائص الخطاب الزجلي المغربي الذي يستحضر ثقافة الأرواح والتناسخ، وهذا النوع من التسامي تحفل به الثقافة الصوفية، وكذلك الثقافات الإفريقية مثلما نجد في أغاني كناوة.
وتأتي كلمة (شطوني) لتعبر عن القلق، فالشطنة تعني صرف الحال، وتعني صرف العقل وتعاليا للشعور، لنصبح أمام ما يسميه علماء التحليل النفسي حلم اليقظة.
يصور السطر الشعري (موجة تلوحني لموجة) صراعا جديدا تعيشه الذات، وتقترن بصفة (مهيجة) التي وردت في المقطع الأول. وقد بنت الذات الشاعرة هذه الصورة من معجم البحر، ولكن المعنى يقيده، في حالة الهيجان والغضب، وهو ما يولد الصراع الأبدي في سفر العودة الأسطوري، ذلك الصراع الهوميري الذي يجعل البطل يقطع الأمواج ويصارعها من أجل الوصول إلى الوطن. إن رمزية البحر لا تنفصل عن رمزية الظلام، فكلاهما يحيل على المجهول والمخيف، ولذلك سميت المحيطات الكبرى بأسماء تقرن البحر بالظلمة، فكان اسم المحيط الأطلسي قديما بحرَ الظلمات.
بعد وصف الذات لحالتها الشعورية، وصراعاتها الداخلية “شطونها”، “موجة تلوحني لموجة”، تنتقل إلى امتلاك الفعل، ولكن الصورة الجديدة التي تبنيها، تنطلق من خلق رمزية جديدة،
“فسحت الليل” الذي رمز في البداية إلى الظلام الذي يحاصر الذات ويشدها، تتقمصه الذات فعلاً لها (نسحتْ الليل)، يشتق الزجال من اسم الطائر فعلا، وهذه الظاهرة اللغوية في اشتقاق الأفعال من أسماء الحيوانات أو الطيور تسعى إلى نقل السمات الرمزية التي يحملها الكائن في المخيلة الاجتماعية، وإضفائها على الفعل الإنساني، ومنها مثلا (تكلبن، تنمر، استأسد…)، وقد لا يحافظ الفعل المشتق على السمات الدلالية الأولى، بل يندرج في دلالات جديدة، مقترنة بسياق الخطاب.
“نسحت الليل” اشتقاق يولد معاني جديدة، تنسجم مع السياق الانفعالي الذي خلقته الذات الشاعرة، وهي تصارع الليل وأمواج البحر، ونلاحظ أن الاشتقاق قد تحقق في مستوى الجزء الأول (سحت)، وحافظ على الجزء الثاني (الليل)؛ ونشير إلى أن تصريف الفعل في زمن المضارع، يعزز الحضور عند المتلقي، لأن الفعل ما زال مستمرا، تتقمص الذات الشاعرة صفة من صفات الكائن، وتحلّ محله، وينسجم بناء هذا التصور الرمزي مع أجواء “الحال”، وقد ورد فعل الذات في هذا الحضور الوجداني “هاك اشوفتي…هاك ميزاني”، ولا تنفصل الدلالة الجديدة للفعل عن السطر الموالي
(على رموش العين نسافر)، فالسفر ليلي، ومقرون بالبحر، وهذا يعزز التأويل الرمزي السابق الذي اعتبرنا فيه الليل والبحر مقرونين بالرحلة إلى المجهول، رحلة محفوفة بالصراع الذي تمثله الأمواج.
غير أن الذات الشاعرة تفاجئنا بالارتداد إلى الدّاخل، والعودة إلى الذات، فيتحول البحر الخارجي الخطير والمجهول إلى بحر داخلي، وتؤثث استعارة “سفينة أحلامي” صورة هذا البحر الهادئ (سكاتي)، وهي صفة تدل على الصمت والسكينة، يستبدل الزجال الصورة المرعبة لليل والبحر، بصورة جديدة يطلق فيها سفينة أحلامه، فيقابل بين صورة (موجة تلوحني لموجة)، ويولد صورة جديدة (تتكركب على مواج الخاطر)، وهذه الصورة الجديدة تنبعث من الداخل (أحلامي، الخاطر)، وتأتي كلمة (في بحور) لتحيل على دلالة جديدة، تقترن بالإبداع، فالبحر يحيل على موسيقى الشعر وجماله، وفيه فقط نستطيع أن نعبر عن أحلامنا وخواطرنا. وتتصادى كلمة (ملهجة) مع كلمة (مهيجة) صوتيا وصرفيا ودلاليا، فالجناس غير التام بين الكلمتين يعيد إنتاج إيقاع حركة الذات، كما أن صيغة اسم المفعول تؤدي وظيفة الانفعال، لكن الدلالة لا تقوم على التوافق أو التقابل، فالصفة الأولى
(مهيجة) تقترن بوصول الذات إلى أقصى درجات الانفعال، وهو خروجها من عالم يقيس الواقع وفق منطق العقل إلى الجنون، حيث لا منطق يحكمها، تحقق الذات الشاعرة انفلاتا من عالم الظلام، ولكنها ترتمي في عالم الأمواج، وفيه حركة الذات تغدو منفعلة (موجة تلوحني لموجة)، وتنتهي إلى إعادة امتلاك الواقع، بتحويل العالم القاسي الذي يرمز إليه البحر إلى داخل الذات. يعود الزّجال إلى الإبحار داخل نفسه راكبا سفينة الحُلم، ومطلقا إياها في “أمواج الخاطر” الذي لا تقل بحوره غضبا، ولكنها (ملهجة) وهي صفة تدل على المثابرة في طلب الشيء، وفي ذكره أيضا. تنفصل الذات عن عالم الظلام وتهيئ نفسها لامتلاك عالم آخر، هي من يصنعه بإصرارها، وهي من تقود سفينته.
يتحقق الانتقال الرمزي من عالم الظلمة إلى عالم النور الذي سنحلله في المقطع الأخير عبر الماء، فالماء أعاد دورة الحياة مع سفينة نوح، والماء أخذ حوت/وديعة موسى والخضر، والمسيح مشى فوق الماء، والماء اختبر صدق قلب رفيقه. الماء صلة الوصل بين السماء والأرض، بين الآلهة والبشر.. ومن ماء البحر وحبر الكتابة يحقق الشاعر انتقالا من عالم الظلمة إلى عالم النور.
المقطع 3: الكتابة وعالم النور
“على قد فهامتي
ف أبراج لكتابه نعافر
بحق الرجا
ف يوم يطل ب انوار مبهجَة”
يبدأ المقطع الأخير من الذات، وفيه تعلن عن إيتوسها (الذات الكاتبة)، وموضوع علاقة الزجال بالكتابة، وكما أشرنا إلى ذلك في المقدمة، فمعظم الزجالين يتحضرون لطقس القصيدة، بالإشارة إلى علاقتهم بالكتابة الزجلية، وشغفهم بها، واحتراقهم ومعاناتهم ومكابدتهم من أجل إبداعها. هذه النرجسية الأثيرة عند كتاب الزجل نابعة من إحساسهم بتفرد هذا النوع من الكتابة، وبأن القصيدة يتم تعميدها بماء الروح وشقائها وعذاباتها.
لكن هذه “النرجسية” في قصيدة “سحت الليل”، تقيد نفسها (على قد فهامتي)، وهي تعكس جانبا من شخصية التواضع عند المبدع، الذي يصَعّر خدّه لأبراج الكتابة، ولكنه بلاغيا حين يكبرها، يرفع من قيمته الإبداعية؛ فكلمة أبراج ترمز إلى العلو والسمو، والرّفع من قيمة الذات تحقق ضمنا بالرفع من قيمة الكتابة التي اختارتها، وحمل مقدورا صخرتها، ويعبر الفعل “نعافر” على الجهد والمشقة. الكتابة عند الزجال رجاء، وكلمة (الرجا) تحمل في طياتها الرغبة والشغف والحب…، وينتهي هذا الرجاء بالانتقال بعلاقة المقابلة القائمة على التضاد إلى أقصاها، ويتجلى هذا في السطر الأخير(ف يوم يطل ب انوار مبهجَة). تحلّ (انوار) محل (مظلمة)، يحدث الانتقال من الأقصى إلى الأقصى عبر معارج امتلاك العالم القاسي داخليا.
تحول الظلام من نقيض للنور إلى قرين له. لقد بنى الإبداع تاريخا بأكمله عبر اللعب على أطراف المتقابلات، وإذا كان المنطق الأرسطي يحدد أربعة أشكال أساسية للتقابل هي: التناقض والتضاد، والإضافة، والسلب والإيجاب، فالصنيع الفني يقوم على تجاور المتقابلات (خير/شر) (خطأ/صواب).
ينحو الزّجال إدريس الزاوي من جهته إلى استراتيجية إفراغ التقابل من معناه، فالنور ليس نقيضا للظلمة أو ماحيا لها، بل هو مسير لها، فكما نسحت الليل، نسحت النهار. وفي الداخل فقط يمكن أن نبني سريرا للوجود أو العدم.
يقول بوغو ميل رانيوف: “العالم الكبير منحوت من الظلام والنور، فلو اختفى النور لما استطعنا النظر إلى ظلمات الدراما، لكن، من أين؟ في الجوهر، يأتي الألق الذي يضيء هذه الرؤى الموجعة؟ في نتاجات الفن الكبيرة والدرامية يأتي هذا الضوء النابع من قلب المبدع لينير المأساة البشرية”.
> بقلم : إبراهيم العدراوي
الوسوم
"سحت, إدريس, الزاوي, الزجلية, الصورة, القصيدة, الليل, المغربي, رمزية, في, للشاعر