انتقل إلى عفو الله مؤخرا الفنان التشكيلي المغربي محمد المليحي، بعد أن كان يخضع للعناية المركزة بأحد مستشفيات باريس على إثر إصابته بعدوى فيروس «كوفيد – 19»، وذلك حسب ما علم لدى محيطه.
وكان محمد المليحي، الذي يبلغ 84 عاما من العمر، وهو أحد الوجوه البارزة في مجال الفن المغربي المعاصر، يتواجد في فرنسا من أجل إجراء فحوصات طبية قبل إصابته بالفيروس، حيث وافته المنية بالمركز الاستشفائي الجامعي أمبرواز باري الذي اعتمد به في قسم العناية المركزة.
وولد المليحي، أحد رموز الحداثة المغربية والفنان العالمي، سنة 1936 بأصيلة. فقد ساهمت أعماله في تشكيل جمالية المنظومات الفنية لما بعد فترة الاستعمار والشبكات الفنية العربية من خلال تعبيراته الهندسية، والثورة الثقافية المنبثقة مع مدرسة الدار البيضاء، وكذا عمله كمصور فوتغرافي، وناشر، ومصمم، وفنان ملصقات ورسام جداريات.
وكانت إبداعاته الفنية موضوعا للعديد من المعارض عبر العالم، كما خصصت له العديد من الفعاليات التي تحتفي بفنه.
وكان محمد المليحي قد أضحى منذ مدة الممثل الرئيسي الذي لا يزال على قيد الحياة للفن المغربي المعاصر، على الصعيد الدولي.
درس المليحي الفن التشكيلي في كلية الفنون الجميلة بتطوان، بعد ذلك تابع الدراسة في إسبانيا. وتمكن من صقل موهبته بالانفتاح على مدارس غربية.
ساهم في عدة معارض تشكيلية، كما أغنى تجربة النشر بإصداره لمجلة خاصة بفن التشكيل تحت عنوان «أنتركال» ويعد كذلك من بين مؤسسي ورشة التشكيل لموسم أصيلا الثقافي الذي يعقد كل سنة.
تتميز الأعمال التشكيلية لمحمد المليحي باستيحاء الأشكال الهندسية المعمارية ذات الطابع الإسلامي، واستخدام الألوان الحارة، حيث اكتسب بصمة خاصة به لا يمكن للعين أن تخطئها.
وتحظى تجربته التشكيلية بتقدير كبير سواء داخل الوطن أو خارجه، وفي هذا السياق يجدر التذكير بأنه بيعت إحدى لوحاته في مزاد علني بلندن بأكثر من خمسة ملايين درهما، مسجلة بذلك أعلى سعر تحصل عليه لوحة في هذا المزاد الذي شارك فيه خمسون فنانا تقريبا.
وكان قد رسم هذه اللوحة التي تحمل عنوان «ذي بلاكس»، سنة 1963 بنيويورك.
وكان من بين آخر معارضه، ذلك الذي نظم السنة الماضية تحت شعار «60 سنة من الإبداع… 60 سنة من الابتكار»، برواق فضاء التعبيرات، التابع لصندوق الإيداع والتدبير في الرباط، وقد كان معرضا استرجاعيا لأعماله التشكيلية.
وفي الدليل الفني الصادر بالمناسبة نجد أن هذا المعرض يشكل: «إبحارا في حياة هذا الفنان، من خلال استعراض مراحله الفنية، ومبادراته لتطوير الحركة التشكيلية في المغرب، انطلاقا من الستينات، ومرورا بالسبعينات والثمانينات من القرن الماضي، وصولا إلى المرحلة الراهنة».
ويضيف الدليل أن «من أبرز تلك المحطات الفنية، وهي كثيرة ومتنوعة، تجدر الإشارة – على سبيل المثال لا الحصر – إلى إسهامه الفني في مجلة أنفاس، قبل إطلاق مجلته الخاصة، وسعيه لإقناع طلبة مدرسة الفنون الجميلة في الدار البيضاء بأهمية الموروث البصري المغربي، وكذا جهوده لتقريب التشكيل من المواطن العادي في فضاء مفتوح، بعيدا عن قاعات المعارض، بمعية بعض أصدقائه الرسامين: فريد بلكاهية، ومحمد شبعة، ومحمد حميدي، ومحمد أطاع الله، الذين أقاموا معرضا تشكيليا في ساحة جامع الفناء بمراكش صيف سنة 1969؛ لتحقيق التواصل المباشر بين الفنان والجمهور من دون حواجز، في أول سابقة من نوعها. وهي التجربة التي تكررت في إحدى ساحات مدينة الدار البيضاء».
ومما كتبه موليم العروسي، الكاتب والأكاديمي والخبير الفني، في دليل المعرض، ما يلي: «قبل مغادرة أميركا لم يجد في حوزته إلا الأمواج رصيدا تشكيليا وحيدا يحمله معه. أمواج سوف تقترن دونما إسفاف، بكل النظريات والرؤى التي ستعبر حياة المليحي لاحقا. سيتخذها سيمفونيته الأخيرة، جملته التشكيلية التي من خلالها يرى العالم، يفهمه، يفسره ويعيد خلقه، وأيضا وسيلته المثلى للدفاع والمقاومة. خلال معرضه عام 1965 برواق باب الرواح في الرباط، وصف أحد الصحافيين لوحاته بكونها أميركية بحتة، ولا تمت للمغرب بصلة. دفاعا عن نفسه استجلب المليحي زربية قروية من سوق المدينة، وعلقها بجانب لوحته».
وفي مسار حياته الثقافية والسياسية، عرف المليحي بانتصاره لقيم اليسار، كمثقف ديمقراطي وتقدمي، إذ بعد رجوعه من الديار الفرنسية في ستينيات القرن الماضي، التحق بمجموعة «أنفاس» التي كانت مقربة من مناضلات ومناضلي اليسار المغربي كعبد اللطيف اللعبي وفاطمة المرنيسي وعدد من المبدعين والمفكرين الكبار.. ثم كان مشهودا للراحل المليحي التزامه السياسي والفكري والتنظيمي في صفوف حزب التقدم والاشتراكية بعد تأسيسه سنة 1974، ولاسيما إقدامه بكل جرأة وشجاعة على الترشيح باسم الحزب في انتخابات 1977.. وتحمل مسؤولية تتبع اللجنة الثقافية للحزب إلى جانب رفيقه القيدوم مولاي إسماعيل العلوي في ثمانينيات القرن الماضي، ولا زالت أبهاء قاعة «علال الفاسي» المعروفة بقاعة سمية بأكدال تشهد له بمساهمته القيمة في تأطير يوم دراسي حول الشأن الثقافي في البرنامج السياسي لحزب التقدم والاشتراكية، إلى جانب كل من الأستاذ إسماعيل العلوي والشاعر إدريس الملياني والمفكر محمد المصباحي والمسرحي الراحل عبد القادر عبابو والقاص محمد صوف… وآخرين ..
وبمجرد ما علم المكتب السياسي لحزب الكتاب بخبر وفاته، بادر إلى إصدار نعي مؤثر، مستحضرا بهذه المناسبة الأليمة، «الإسهام الحزبي التاريخي والالتزام السياسي والعطاء الثقافي والفني للفقيد الذي اختار، بعد عودته للمغرب في ستينيات القرن الماضي متشبعا بقيم اليسار وفكر التنوير، الانتساب للحزب وحمل لوائه كمرشح باسمه في انتخابات 1977، وظل طيلة مساره الحافل بالعطاء والإبداع، ومن موقعه كقامة فنية عالمية، متتبعا لأخبار حزبه متعاطفا معه ومتابعا لمواقفه ومعاركه وقضاياه». (النص الكامل لهذا النعي في الصفحة الأولى من هذا العدد).
رحم الله الفقيد، وأسكنه فسيح جنانه، «إنا لله وإنا إليه راجعون».
***
شهادات على هامش رحيل محمد المليحي
شكرا لأنك تركت صورة مشرقة عن معنى أن تكون مبدعا
على إثر وفاة الفنان التشكيلي محمد المليحي، كتب عنه بعض أصدقائه ومتتبعي تجربته الفنية، فقد كتبت الشاعر والرسامة وداد بنموسى: (هل حقا رحلت بعيدا حيثما يصبِح البَياض مأوى؟ يا صديقي الراقي السامق محمد المليحي هل حقا تودع موجاتك القزحية و”القريقية” و”الطيقان” ومقهى “الزريرق” وباب البحر؟ هل حقا لمْلَمتَ قمصانك السوداء المَكوِية بِعناية راعي الحياة؟هل جمَّعْتَ عطرك في قارورة العدم؟؟ هل تركتَ طنجة تئن تحتَ وقعِ الغِياب؟ هل ترجلتَ من على صهوةِ الوجود لتمضي إلى غياهب وأحراش؟؟
كيفَ سأصدِّقُ؟ وبأيِّ ألمٍ سأحضنُ حقيقة رحيلك؟ لقد وعدتني باللقاء بعد الجائحة، وقلتُ لك بأنني أكتب رسائل لمجانين الحياة، وبأني قررت أن أعاودَ مجاورةَ الفرشاة واللونِ وشجعتني على ذلك وأخذت مني وعدا بأن أواصل بحثي عن جوهر المعنى ومعناي في كل لوحة وكل قصيدة؟ وإذن.. هل تموت المواعيد أيضا؟ هل أغلق باب الرجاء وأجلس هنا.. أمام هذا المصابِ الجلل؟
رحلت أيها المبدع الكبير والإنسان الأكبر، والصديق الغالي، رحلت السي محمد المليحي تاركا خلفكَ أثر الربيع، ذلك الواعدِ دوما بأعراسِهِ الخضراء…
شكرا لك، شكرا لأنك كنت سخيا بفَنكَ كالغيمات، لأنك كنت نبيلا فوق العادة، لأنك كنت مِعطاء بنكران ذات، لأنك لم تخن الفنان فيك، شكرا لأنك تركتَ صورة مشرقة عن معنى أن تكون مبدعا…
درسك الأخير السي محمد المليحي: نساء في المقبرة باكيات حزينات على شفا قبرك..نساء في الزاوية
ببياض ناصع، كانت زوجتك خديجة واقفة تودعك مع من التف حولك من الرجال).
***
وكتب الشاعر عبد الرحيم الخصار بنفس المناسبة الأليمة: (لم يكن يدرك الفنان التشكيلي المغربي محمد المليحي أن رحلته إلى باريس لإجراء جراحة في ساقه ستكون الأخيرة إلى المدينة التي درس فيها الفنون الجميلة مطلع الستينيات. فهو توفي، متأثراً بمضاعفات فيروس كوفيد- 19 في العناية المركزة في أحد المستشفيات الباريسية.
في بداية شبابه درس المليحي الفنون في مدينة تطوان شمال المغرب ما بين عامي 1953 و1955. ثم توجه بعدها مباشرة إلى مدينة إشبيلية ليلتحق بمدرسة “سنانتا إيزابيل دي هنغاريا”، وبعدها بعام التحق بـ”المدرسة العليا للفنون الجميلة سان فرناندو” في مدريد، ثم واصل دراسته في المجال نفسه في معهد ستاتالي في روما. ومع مطلع الستينيات دخل معهد الفنون الجميلة في باريس، وبعدها حظي بمنحة دراسية لمدة سنتين من مؤسسة “روكفلير” في جامعة كولومبيا، ليعود مع أواسط الستينيات إلى بلده المغرب.
عاد الفنان إلى موطنه بأفكار جديدة عنوانها “الحداثة الفنية”. وشكل برفقة الراحلين فريد بلكاهية ومحمد شبعة ثلاثياً مهماً كان له بالغ الأثر في تحول مسار التشكيل في المغرب. وعُرف عن هذا الثلاثي تكوينه الفني البانورامي ومرجعيته الفكرية الحداثية. لذلك خرجوا مع نهايات الستينيات بفكرة جديدة سموها “الفن الواضح”، وأقاموا معرضاً جماعياً في ساحة جامع الفنا الشهيرة في مدينة مراكش، وفتحوا نقاشاً مع الجمهور، محاولين الدفاع عن أفكارهم الجديدة في مغرب كان يطغى عليه الطابع التقليدي في مجال التشكيل. وأسس مع محمد بنعيسى “جمعية المحيط الثقافية” التي تنظم مهرجان أصيلة المعروف، وكان حريصاً على أن تزين المدينة سنويا بجداريات فنية كبيرة، رغبةً منه في أن يبقى الفن عنصراً حاضراً ومرئياً للجميع.
كان المليحي عضواً في جماعة مجلة “أنفاس” اليسارية والطليعية الرائدة التي كان يرأس تحريرها عبد اللطيف اللعبي، وأسهم في تصميم أغلفتها أواسط الستينيات. وكان ضمن فريق التأسيس برفقة اللعبي ومصطفى نيسابوري ومحمد خير الدين، واختار أن يصمم الأغلفة ويقوم بإخراج المجلة دون مقابل مادي، دعماً منه لحركة فكرية طليعية كان لها بالغ الأثر في الحياة الثقافية المغربية. لم يكن المليحي رساماً فحسب، بل كان نحاتاً ومصمماً ومصوراً ومنظراً وأستاذاً للفن، وناشراً أيضاً. فهو أسس سنة 1974 دار نشر اسمها “شوف”، كما كان يصدر مجلة اسمها “أنتغرال”. فضلا عن عمله مديراً عاماً في وزارة الثقافة، ثم مستشاراً ثقافياً لوزارة الشؤون الخارجية.
***
كان قد وصل جثمان الفنان التشكيلي الراحل محمد المليحي إلى مطار الرباط – سلا حوالي الساعة العاشرة ليلا من يوم الجمعة الماضي في طائرة عسكرية خاصة من فرنسا، ليتم بعدها نقله إلى مدينة أصيلة مسقط رأسه؛ وتم دفنه بعد صلاة العصر في زاوية سيدي احمد الغزواني قرب قبر والدته حسب ما أوصى به.