سر اللوحة يكمن في علاماتها الفارقة، وشكلها الذي قد يظهر مبهما للوهلة الأولى يتضح في تماثلات الكتل والأحجام، وفي الضوء واحتمائه بنسغ ظله، وفي اللون ومدى تأثيراته الأسلوبية في نمط الحياة، لهذا فاللوحة قد تتعدد مخاييلها واستيهاماتها، بحيث إن مرجعية الأثر البدئي هي خير ما يترجم أس البذرة الأولى، التي يحتفي بها كبار الفنانين المبدعين، خاصة في المختبر التشكيلي، النابع من مهاوي وأجراف فضاءات المنحوتات والمنسوجات والجداريات، وكل ما يمكنه أن يستوعب التركيب الفيزيائي للنسق الضوئي على بساط القماش، هكذا يتحول الكائن المنظور إلى أنموذج رهيب، تتفاعل معه البنية الهندسية بشتى تلاوينها الظليلة، وزخرفها المكابر لعنفوان الحشود المدمرة للكينونة والأبدية.
يحتفي الفنان عبد السلام الفقير في لوحاته بتجريد عناصر الكون اللامرئي من لبوس بدائل اليقين والمطلق، إذ ترصد فرشاة فراسته اللونية مخططات الهيئات اللامتوقعة، كأن يكتفي باستبدال ما هو طبيعي نمطي بما وراء طبيعي مراوغ، حيث تتقتر الألوان في صبيبها أمام ندرة الاشتغال على التصويري في محراب هيكل متعبد، أو برزخ متعال، وبما أن المادة على القماش تتحقق من إرغامات الإعادة والتشييد، فإنها تبني تيمتها من وحي الوعي بالعين المقرونة بالرؤيا، والمستهدفة للغامض من الإحساس الانطباعي والممسوس بحدوس العناصر الواقعية، ولهذا تتجذر طقوس كثرة التحابك بين اللون والشكل والحجم والكتلـة، الشيء الذي يجعل من اللوحة خلية مثيرة وحية، تتمثل تغيرات الحياة في أبعادها الكلية.
يمكن القول من منظور الناقد الفني والجمالي: إن التقنيات التي يوظفها الفنان عبد السلام الفقير، هي بالكاد أدوات الشاعر الرؤيوي، الذي لا نظام يمكنه تقييد مساحات تعبيره، ولا حدود توقف مسيرته المجردة من وعثاء السفر في متاهات الألوان الصارخة، أو في بؤر الإقامات ذات النزوعات المتوارثة، ليست هناك زخارف، ولا فسيفساء، بل يميل إلى العوالم التجريدية العميقة، والمتعرجة على أحراش وسمادير التحولات الباطنية للذات في علاقاتها بالآخر، ومما لاشك فيه أن هذه المعادلة، إذا اعتبرناها كذلك، يمكنها أن تكسب التجربة جرأة إيجابية، وتداولا خصيبا مرفوقا بالابتكار والإبداع.
إن الألوان في اللوحة تثير نفسا سرديا تبئيريا، يتشكل من جينات بوهيمية تتماهى ورمزية الدوال، حيث تنحني متخشعة المرويات البصرية كسنابل ساجدة أمام بداهة ما يحتويه الفضاء التشكيلي، وفي الوقت نفسه يلاحظ أن إطار اللوحة يتمدد في أقاصيها، إذ لا ينتهي باستكمال الإحساس بموت الفكرة، وانحباس الفرشاة حين يداهمها حصار الرغبة، التي ينعدم فيها تتويج المادة، بمعنى أن خصوصية اللوحة قد تتجلى في ما تبعثه من موتيفات عبر أنساق ثقافية مضمرة، ومركوزة بدقة في الحواشي والتوشيات، وكأن تشكل اللوحة المتمرد يطرح أسئلة تفكيكية تعيد انتساج هويتها من خلال تماهياتها وتهويماتها، المنتسبتين إلى لعبة تقويض البنى المركزية للذات، هكذا تبدو تجربة الفنان عبد السلام الفقير كمنحوتة استيهامية تخرق اكتمال الألفة، والمنطق الصوري حين يتعقل فيه المجرد ويتحول إلى شكل منظور ومحدد.
تحاور لغة اللوحات التباس أقنعتها، وبألوانها تنحو نحو تسنين لطخات تأطيرية تخرج عن نسق نظامها إلى ما وراء الدلالة المعجمية المألوفة، وبما أن الاشتغال على التجريد هو العلامة الدالة على الوجود القائم في فضاء اللوحة، فالتجربة اللونية كما يتبدى لنا تخرق اتفاقها الطبيعي، لذلك نلاحظ أن الابتعاد عن التجسيد والتشخيص في اللوحات، يساعد الفنان عبد السلام الفقير على فك اللوحة من قيود الشكل وانحباسه ضمن دائرة مغلقة، بحيث تصبح تمثلات الألوان غير مقصورة على مظاهر التزويق والتزيين كما يبدو في المنمنمات والأرابيسك والرقش، والتصوير.
يدفعنا متخيل اللوحات إلى تبني فكرة السفر، من خلال التحاور بين الألوان (الأزرق، الأصفر، الأحمر، الأبيض، الأخضر، الأسود)، وتقاطعاتها الدلالية ضمن ثنائية النور العتمة، أو اللون واللالون، وبهذا يمكن استنتاج أن تكسير خطية اللون وتقتيره، يجعلانه مفارقا لغايته، وحاشدا لآليات فنية وجمالية، تشتغل في ورش متنوع السنن والدوال في الخطاب البصري والأسلبة البلاغية، بحيث تصبح اللوحة نسيجا بصريا انزياحيا، يكتمل تطريزه عبر بناء إطار دهشته بواسطة المكونات اللونية، التي تحتمل دلالات متعددة وفق منظور يتصادى فيه الفضاء والزمن والسرد، وبهذا فالتجربة التشكيلية للفنان عبد السلام الفقير يمكن الانسلال إلى مخابئها من مرجعيات متنوعة، فلسفية وصوفية ومعرفية عامة، لا تقتصر على الطرح الكلاسي الطبيعي والتكرار السلبي، بل تنحت اجتهادها من خلال مراجعة المفاهيم القيمية، وتبحث عن استعارات أليغورية استطيقية، تسعى إلى بناء تصور خيميائي حديث، يتجاوز منطق الدليل الإيقوني الثابت.
< بقلم: محمد صولة