“صارت الحرية طاغوتا يعبد من دون الله تعالى”، هكذا يلخص السلفيون اليوم موقفهم من الحرية على لسان عصام البشير المراكشي أحد شيوخ السلفية بالمغرب في كتابه “العلمنة من الداخل”.
يعاني التيار السلفي في المغرب خصوصا، والعالم العربي عموما، من توتر شديد مع مفهوم الحرية، يعتبرونه وافدا غربيا على ديار المسلمين، بل يرون أن كل اجتهادات الفقهاء في اعتبار الحرية مطلبا شرعيا هي مجرد تأثر بالثقافة العلمانية السائدة، على اعتبار أن الإسلام قيد الحريات وجعلها منضبطة بالضوابط الشرعية التي لا يجوز مخالفتها بحال من الأحوال.
كيف يستقيم اليوم قتل هذه القيمة وتفريغها من معانيها مع كل ما كنا نسمعه من أن الإسلام غاية رسالته تحرير البشر من عبادة العباد، وتخليصهم من رق الخرافة والاستكبار، ومن أن جيل الصحابة كان يردد: بعثه الله إلينا ليخرجنا من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد؛ متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحرارا…
قد يكون مفهوما أن أجواء الحرية في السنوات الأولى للإسلام لم تكن بدرجة مثالية، وأنه كان زمن وضع هذه الأسس في أجواء سيطرت فيها ثقافة الرق والعبودية، وأن الهدف كان هو تطوير هذه القيمة بالتدرج، وأنه كان مأمولا ممن جاء بعد ذلك أن يرفع السقف، ويبتكر ويبدع في تفعيلها وتحويلها لثقافة مرتبطة بهذا الدين الجديد، وما صاحبه من تأسيس الدولة وانبعاث حضارة بشرية أخرى.
وقد يكون عدم التطوير أو بطؤه مفهوما زمن الخلفاء، بحكم قصر الفترة وما شابها من قلاقل وفتن، لكن الدولة الأموية التي امتلكت كل المقومات السياسية، وتوفر لها كل ما يمكنها من تطوير هذه القيمة وتفعيلها، انتكست وانقلبت على المبدأ، بل إنها حاربت كل دعاوى التحرر، وابتدعت ما عرف تاريخيا بعقيدة الجبر، وهي العقيدة التي تقبر كل معاني الحرية، فالإنسان بحسب الجبر لا إرادة له ولا اختيار، وليس حرا في أن يفعل أو يقرر ما يريد، ولم يكن لهم من غرض إلا تثبيت دعائم حكمهم، وقمع كل حركة مناوئة أو محتجة أو خارجة على الدولة، بحجة كون ذلك من التمرد على قضاء الله تعالى وقدره الغير قابل للتبديل والتحويل.
ولم تكن حوادث اغتيال معبد الجهني وغيلان الدمشقي والجعد بن درهم لأسباب عقدية كما أريد لنا أن نفهم، بل لأنهم واجهوا هذه العقيدة الفاسدة، وهزوا عروش الأمويين، فنسب إليهم القول بنفي الأقدار، وشوهت أقوالهم، وبرر لسفك دمائهم بالزندقة والخروج على جماعة المسلمين.
إن التنوع الفكري واحترامه كقيمة مضافة لأي مجتمع لا يستطيع العقل السلفي استيعابه إطلاقا، كيف يستوعبه وقد نشأ وتربى في ظل انسداد فكري شديد، فرضه عليه نمط تعامله مع النص الشرعي، ثم تعامله مع الواقع الحديث من ناحية التدبير والإسقاطات التاريخية.
لقد شهد التاريخ الإسلامي في بدايته نوعا من الاختلاف والثراء الفكري، تعددت الآراء الفقهية تعددا كبيرا، وتباينت المناهج في تفسير النصوص الدينية، وكثرت الأقوال العقدية مما أدى إلى ظهور المدارس والطوائف، ولم يعمد الفاعلون السياسيون والفقهاء إلى حسم النقاش وحمل الناس على رأي واحد.
يعرف الجميع قصة الإمام مالك الذي أراد الخليفة العباسي أبو جعفر المنصور أن يحمل الناس على رأيه، فرفض الإمام مالك ذلك العرض، بحجة تفرق العلم في الأمصار مع تفرق الصحابة؛ يحاجج السلفيون بأن هذا خلاف فقهي سائغ، لو وافقناهم تنزلا – مع أن التكفير والاعتراض الشديد بين الفقهاء في المسائل الفقهية مشتهر جدا – فإن الخلاف كان واقعا بحدة أيضا في مسائل أساسية من أمور العقيدة، بل لقد اختلفوا في القرآن اختلافا شديدا، ونعرف جميعا ما وقع بعد جمع المصحف زمن عثمان، ونعرف ما وقع من اختلافات سياسية، بل حتى في قضايا نظرية متعلقة بالاعتقاد، فاختلفوا في الإسراء والمعراج، وفي رؤية النبي لربه، وفي سماع الأموات للأحياء وغيرها من القضايا.
لم يسع علي بن أبي طالب إلى إفناء رأي الخوارج، بل اعتبرهم إخوانا له، ولم تسع السلطات السياسية العباسية إلى منع التأويل الشيعي والأشعري والمعتزلي للإسلام.
صحيح أن بعض حقب التاريخ عرفت تسلطا سياسيا على الفكر كقضية خلق القرآن، وقصة الاعتقاد القادري وغيرها، لكن هل هذه الحوادث هي المعبرة عن روح الإسلام ومقاصده؟
يعتقد السلفيون أنها معبرة بشكل أصدق عن تعامل الإسلام مع الآراء المخالفة، سندهم في ذلك تلك الروايات الكثيرة عن أهل الحديث التي كانت شديدة على المخالفين في الرأي الذين يسمونهم “مبتدعة” باصطلاح ذلك العصر، وهي روايات تدعو في مجملها إلى بغض المخالفين في الرأي، والوشاية بهم إلى السلطة السياسية، وتحذير الناس منهم ومن أفكارهم.
لكن شيئا من هذا لا نجده في أصول الإسلام الأساسية، لا يوجد في نصوص الإسلام ما يدعو إلى التحجير على الآراء المخالفة ومنعها، بل أمر القرآن بمجادلة الآخرين في آرائهم بالتي هي أحسن، “ولا تجادلوا أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن”، أو الإعراض الهادئ حين تقتضي المصلحة ذلك، إذ قال تعالى: “فأعرض عنهم وقل سلام”، “وإذا رأيت الذين يخوضون في آياتنا فأعرض عنهم حتى يخوضوا في حديث غيره”، إلى غير ذلك من الآيات الدالة على معاني الجدال والنقاش.
منع الآراء المخالفة والحجر عليها لا يوجد إلا في خيال المتعصبين، الذين يستندون إلى أحداث تاريخية وآراء فقهاء لربما كانت لهم مبرراتهم الظرفية الوجيهة في اختيار تلك الأقوال، حيث كانت ثقافة السلم والحوار ضئيلة آنذاك، فكان اعتقاد رأي ما يعني مباشرة تضليل وتسفيه القول الآخر، وبالتالي كان اللجوء إلى السلاح والاعتداء أمرا متكررا من الشيعة على السنة، والعكس أيضا…
لم يعاقب رسول الله عليه السلام ذا الخويصرة الذي قال لرسول الله: اعدل يا محمد فإنك لم تعدل! ولم يقم أي خليفة من الخلفاء الراشدين بمعاقبة الذين يعتقدون بأحقية علي في الخلافة، ولا عاقبوا الروافض ولا الخوارج ولا المرجئة ولا أي طائفة من الطوائف الإسلامية الكثيرة، حتى في زمن بعض الملوك الذين كانوا على الاعتقاد السني كعمر بن عبد العزيز وهارون الرشيد.
اليوم، يعتبر السلفيون أن التنوع الفكري مبدأ علماني يخالف المنهج الإسلامي الصحيح الذي يستقونه من أقوال الرجال وليس من نصوص الوحي، ويعتبرون أن الاعتداد بحق التنوع الفكري ليس استنباطا محايدا منضبطا بنصوص الشرع، وإنما هو التأثر بالنظام العلماني المهيمن.
إن هذه الحدية في ادعاء الحقيقة، واتهام الآخرين بالجهل والاستلاب الفكري أمر غير صحي إطلاقا، وهو ناتج بالضرورة عن التبجيل المطلق لآراء السابقين، أي معنى يبقى لعبارة “الإسلام يصلح لكل زمان ومكان” مع كل هذا الجمود على أقوال السلف؟
قد يستهين المرء بحكم جهة أو فرد عليه بالكفر، وقد يتعامل معه بمنطق التجاهل والاستخفاف، لكنه لن يفعل ذلك حتما حين يعلم ما يترتب فقهيا على مثل هذا الحكم، ابن عثيمين مثلا الذي كان معدودا على المؤسسة الدينية الرسمية بالسعودية، وواحدا من كبار المرجعيات السلفية، يعتبر تارك الصلاة، ولو تكاسلا، كافرا، ويبني على ذلك إباحة دمه، وفسخ زواجه، وحرمة الصلاة عليه وتوريثه ودفنه في مقابر المسلمين.
فإذا كانت مثل هذه الأحكام صادرة من أحد المرجعيات الكبرى للسلفية المعاصرة، بل من المحسوبين على المعتدلين منهم، وكانت كل هذه القسوة في حق تاركي الصلاة تهاونا – وما أكثرهم بين المسلمين – فما بالك بالغلاة منهم، وما بالك حين يتعلق الأمر بالعلمانيين ودعاة المدنية، بل ما بالك بمن يصرح بكفره أو تغييره لدينه أو يجهر بإلحاده ولادينيته، بمثل هذا المنطق الفقهي كان اغتيال فرج فودة، ومحاولة قتل نجيب محفوظ، والتفريق بين حامد نصر أبو زيد وزوجته، ومحاولة التفريق بين السعداوي وزوجها، لن يتغير الوضع ما لم تتكاثف الجهود لصيانة عقائد الناس واختياراتهم، وتجريم الاعتداء عليها، وإلا فلا يمكن الحديث عن أي دولة حديثة، أو مجتمع معاصر.
- بقلم: د. محمد عبد الوهاب رفيقي