من الواضح، وحسب ما يشير إليه أحد الدارسين، في أنه لا يمكن أن نفهم تصور مغاربة القرن الماضي لموقع بلدهم على وجه الأرض، إذا لم نعرف بالتدقيق اتجاه الطرق المتبعة في الأسفار، وتلك الطرق هي في الحقيقة منذ قرون، أرضية وسماوية في آن واحد، طرق المراحل ومنازل النجوم. من هنا يمكن فهم اعتماد المغرب عاصمتين، تعتبران رأسي طريقين اثنين: طريق يربط المغرب بمنزل الوحي، وطلب العلم، والحج. وطريق ثان يربطه بالعمق الإفريقي. الأول جنوبي شرقي، والثاني جنوبي غربي، الأول ينتهي إلى فاس، والثاني إلى مراكش.
فالخريطة كما ترى اليوم، وكما فرضتها الصناعة الخارطوغرافية الغربية تطمس هذه الحقيقة، لهذا يجب أن نضع الخريطة موضع وجهة أخرى، كانت عادية في القرون السالفة. وجهة تحمل في الحقيقة مغزى تاريخنا العميق. فالخريطة الحالية تطمس بروز وأصالة الطريق الثاني، المنغرس في العمق الإفريقي. جاعلة منه طريقا متفرعا عن الأول، في حين أنه مواز له، مضاه له في التأثير على سكان المغرب واقتصادياته.
في هذه الدراسة البحثية، يحاول الدكتور المؤرخ محمد براص إبراز قيمة الجغرافية التاريخية في رصد تاريخ العلاقات بين الدول وخاصة بالنسبة للمغرب، الذي تؤطره أواصر قوية بمحيطه الإفريقي.
مراسلات أحمد البكاي الكنتي إلى علماء فاس ومراكش
لقد مثل هذا الاهتمام، لدى السلاطين المغاربة قبيل القرن العشرين، بالشأن الإفريقي، عنصرا مهما ضمن السياسة الخارجية، خاصة بالنسبة للدول التي اعتنقت الإسلام، والتي صارت على المذهب المالكي السني. بل إن هاجس الحركة الاستعمارية لتلك الأصقاع، كان يقلق الحكام المغاربة، الذين كانوا على وعي تام بقيمة الحضور المغربي، في أشكاله الثقافية والتجارية والدينية في تلك المناطق.
هذه المعطيات، وإن كان أغلبها لازال لم يدرس بالشكل المطلوب، خاصة أمام تناثر الوثائق المؤرخة لها في عدد من البلدان الإفريقية، والتي تظل في حاجة إلى الجمع والترتيب والجرد، علما أن مجال التوثيق وحفظ الأرشيف في عدد من تلك البلدان الإفريقية لازال في بدايته.
كان مضمون هذه المراسلات، يهدف إلى إخبار السلاطين المغاربة، بما هو عليه الوضع في إفريقيا الغربية، من تدخل فرنسي لاحتلاله، وبالأخطار بالبقية المتبقية من دولة أحمد بن الحاج الفونتي، وباشوية مدينة تنبكتو، والمناطق المجاورة لها، والتي يسيرها حفدة الكواهي المغاربة. والتي كان يذكر فيها اسم السلاطين المغاربة في يوم الجمعة، وخاصة منها تلك الصادرة في عهد السلطان مولاي الحسن. هذا فضلا عن مراسلات أحمد البكاي الكنتي، إلى علماء فاس ومراكش، وغيرها من المراسلات التي تبرز قيمة التواصل السياسي ما بين المغرب وتلك البقاع من إفريقيا الغربية. كما كانت هذه الرسائل تتضمن طلب العون والنجدة من سلاطين المغرب بعد استفحال التوغل الاستعماري في القرن التاسع عشر، وما واكبه من انعكاسات سلبية بعد مؤتمر برلين 1884-1885م، والذي شكل نقطة فارق في تاريخ القارة الحديث. بل استمرت تلك الدعوات إلى القرن العشرين.
من بين هذه الرسائل رسالة وجهت إلى السلطان مولاي الحسن من قبل أحد زعماء السودان جاء في نصها:
” باسم الله الذي أذهب الرجس عن أهل البيت وطهرهم تطهيرا والحمد لله…، وصلى الله على سيدنا محمد…، وعلى آله وصحبه الذين بذلوا المهج وهاجروا الأوطان وجاهدوا أهل الزيغ والطغيان ابتغاء مرضات الرحمان. وعلى كل عبد تشمر لجهاد الكفار وتخليص من استولوا عليه من عبيد الملك الديان…، وأولوا البر والتقوى …، أعلى الله شأنكم وكبت أعداءكم وأعدم حسادكم ورمى بالبلية من انتهك حرمتكم. ملاذ الملهوفين ومأوى المطرودين. فأنتم أمان لكل خائف وملجأ لكل متحير طائف أمير المؤمنين…، بسلام كالمسك الأذفر وتحية كالورد المعنبر أصفى من الألبان وأبهى من الذر والياقوت في اللبان.
من خديم حضرتكم اللائذ بجانبكم المحتمي بحماكم…، أحمد الكبير بن الشيخ عمر الولي الأغر. موجبه أن الله قد جعلكم ظلا ظليلا يأوي إليكم كل مظلوم، ويشتكي إلى جاهكم كل متحير مغشوم. وأن الشيخ الوالد رضية الله عنه …، أنهى إلينا الأمر وقلدنا خطوبها…، ارتدت الكفرة بعد إيمانهم…، فاستعنا بالله على قتالهم…، حتى غلبنا الله عليهم…، فوضعت الحرب بيننا وبينهم أوزارها.
فلم يرعنا إلا مداخلتهم النصارى وراسلوهم ووعدوهم على المعاونة تمليكهم البلاد. وعاقدناهم عقودا وثيقة مع أنهم لا يرقبون إلا ولا ذمة وكاتبناهم ونسينا أنهم لا إيمان لهم ونص المكتوب بعد البسملة:
من أحمد الكبير الفونتي إلى عظيم أندر، سلام على من اتبع الهدى وبعد، فقد اتفقت أنا ورسولك على المصالحة والمسالمة، وعلى أن لا تمنعوا قادما إلى بلادي من أي موضع جاء من فوت أو من غيرها…، وعلى أن نشتري جميع ما شئنا في بلادكم…، وأن نأخذ منكم العشر من جميع ما تبيعونه…، وأن تبيعوا في أي بلادنا…، وترجعوا ولا تقيموا في أي موضع، فإن قبلت بذلك أرسل إلي ريلا ليتم العهد بيننا، وإن لم تقبل. فذاك والسلام على من اتبع الهدى، ووقع في ذو القعدة 1282ه.
فكتب إلينا الجواب بخط الحاج بن المقداد بأنه قبل الشروط والتزمها كلها.
ودمنا على هذا اثني عشر عاما، ثم أظهروا الخيانة ونبذوا العهد وراءهم ظِهريا وتبطنوا فجارا من معنا من المؤمنين وظاهرا كفارا. فلما تمكنوا من الحيل أعلنوا الحرب، وقاموا لها جهارا، فأردنا مقاومتهم والقيام لملاقاتهم. فانقلب إليهم البلاد بسكانها ذميها وكثيرا من فجار مؤمنيها…، فقاتلناهم بما بقي من طوائف المتقين وما هم إلا شرذمة قليلون ولا محيد مما أراده الله رب العالمين. فأخذوا بلاد فوت وكوت وسغ وبند وفلدن وبرك وبانغة غدرا وخيانة.
والآن الله الله الله…، دارك دارك دارك سريعا إن صحبك عذبوا وبلادك قد خربت ورعاياك قد شتتوا، فيهم اليوم بين قتيل وأسير وطريد ومنهوب ومنتهك ستره. فانظر ما ترى، فإنا منك وإليك لا من غيرك، ولا ننسب إلى أحد سواك، فإن كوننا من تلامذة الشيخ التيجاني…، أظهرُ من كل ظاهر، وكوننا من أهل بيعته ظاهر جلي وكون الشيخ التيجاني…، في بيعة جدكم المكرم الشريف المعظم أمير المؤمنين مولانا سليمان أظهر من نار على علم”.
توضح الرسالة بشكل جلي تلك الصراعات والأخطار التي ألمت بحكم الشيخ أحمد الكبير الحاج عمر الفوتي، وهو من الزعامات السياسية المحلية التي قامت على محاربة البدع، شأنها في ذلك شأن أسرة عثمان دان فودي في نيجيريا، مع التدخل المباشر لفرنسا في شؤون المنطقة عن طريق استغلال بعض الزعامات السياسية واستيلائها على عدد من المناطق، وهو ما جعل الشيخ أحمد يطلب الإغاثة ويستنجد بالسلطان مولاي الحسن ويقر ببيعته.
>إعداد: محمد حجيوي