كسرت العاصمة الفرنسية باريس، مساء يوم الجمعة الماضي، الأعراف الأولمبية بتنظيمها على مدار 4 ساعات، حفل افتتاح لدورة الألعاب الصيفية لأول مرة خارج الملعب الرئيسي كما جرت العادة منذ أول دورة أولمبية حديثة بأثينا سنة 1896، وسط عروض فنية وموسيقية مذهلة تجسد انتقالا من الكلاسيكية إلى الحداثة، رغم حضور قسري لضيف غير متوقع اسمه الأمطار واندلاع حرائق مفتعلة في خط سكة القطار السريع ما تسبب في إلغاء الكثير من الرحلات ومعاناة 800 ألف مسافر.
فأمام أنظار أزيد من 300 ألف متفرج تابعوا الحفل ما بين المباشر وما بين المسجل المعروض على شاشات كبيرة، واقفين أو جالسين على ضفتي نهر السين أو على مدرجات خاصة جزء منها مدفوع بأسعار جنونية، انطلق الحفل على الساعة السابعة والنصف بالتوقيت المحلي.
الحفل بدأ بطريقة كوميدية حيث توجه الممثل الفرنسي المغربي الأصل جمال الدبوز إلى ملعب “ستاد دو فرانس”، حاملا الشعلة الأولمبية ومعتقدا أن افتتاح الألعاب الأولمبية سيقام كالعادة في الملعب الرئيسي، لكنه صدم بمدرجات فارغة وصدى صوته يتردد قائلا: “أين الجميع”.
هنا يظهر أسطورة كرة القدم الفرنسية زين الدين زيدان الذي تسلم الشعلة من الدبوز وانطلق مسرعا خارج الملعب، إلى محطة المترو متخطيا الكثير من الناس برشاقة، طبعا ممثل بديل هو من قام بهذه الحركات الاستثنائية.
في النهاية وصل “زيزو” إلى المحطة واشترى تذكرته، طبعا ظهوره لفت الأنظار، وتحديدا أنظار 3 أطفال كانوا يلعبون بـ “سكيت بورد” ودراجات “BMX”، ولحق به الثلاثي إلى المترو، لكنه فشل في الصعود إلى القطار في الوقت المناسب، ثوان بعدها توقف بسبب عطل مفاجئ، وهنا قرر زيدان تكليف الأطفال بحمل الشعلة إلى المكان المعلوم.
توجه الأطفال عبر الأنفاق، وبعدما كاد تمساح أن يلتهمهم، يلتقون بشخص غريب ومقنع. وهنا تنطلق سفينة “الإغريق” (بعثة اليونان) مبحرة على ضفاف نهر السين صوب جسر “تروكاديرو” المواجه لبرج إيفل حيث المنصة الرئيسية، ثم يعود العرض إلى الأطفال الذين يركبون مع المقنع ثم فجأة يظهر الأربعة على القارب في النهر، في مشهد واكبه استعراض دخاني بألوان العلم الفرنسي.
بعد اليونانيين، ظهر قارب يحمل رياضيين ورياضيات من لاجئي العالم، ثم توالت البعثات الأولمبية الممثلة لـ 205 دول، عبر قوارب صغيرة أو كبيرة وعبارات، في الظهور حسب الترتيب الأبجدي، ومن بينها الوفد المغربي (رقم 117) بزي خاص ولافت للأنظار، والمكون من أقمصة بيضاء وسترات بلون أبيض “كريمي” مع خطوط تمثل النجمة الخماسية الخضراء إضافة إلى شعاري اللجنة الأولمبية المغربية وأولمبياد باريس، وسراويل حمراء، مع أحذية بيضاء مزركشة بالأحمر في القدم اليمنى والأخضر في القدم اليسرى.
وسط هذا الحفل الاستثنائي، عاين المتتبعون عروضا فنية وموسيقية وراقصة من مختلف الأذواق، لكن أبرزها كان الاستعراض الفرنسي الشهير “Mon truc en plumes”، والذي أدته المغنية الأمريكية ليدي غاغا، وأيضا عرض المغنية الفرنسية آيا ناكامورا التي نجحت بمعية راقصاتها، في الاندماج مع فرقة الحرس الجمهوري.
مجددا يعود صاحب القناع للصورة، حاملا الشعلة وهو يقفز على أسقف المنازل والكنائس والقلاع والمعالم الأثرية المتناثرة في عاصمة الأنوار، وتستمر أيضا الاحتفالات برقصات متنوعة على الجسور وعلى شرفات المنازل المواجهة للنهر، إضافة إلى عروض ضوئية على برج إيفل الأسطوري.
لم يفوت المنظمون لهذا العرض الذي صممه المسرحي الفرنسي الشهير توماس جولي بمعية كتاب ومؤلفين معروفين، الفرصة دون عرض مشاهد معدة مسبقة تستعرض تاريخ فرنسا العريق، كالرأس المقطوع للملكة ماري أنطوانيت واندلاع الثورة وغيرها من المحطات الرئيسية.
يعود الاستعراض ليتركز على المقنع الذي يصل إلى سقف متحف اللوفر، ثم يلجه، ويتجول في أروقته إلى أن يصل لمكان عرض لوحة “الجوكاندا” (الموناليزا بالإيطالية)، لكنها ليست موجودة؛ لقد سرقت، ومن السارق؟ إنهم ” minions Les” (مخلوقات كرتونية صفراء)، لكن فجأة تظهر اللوحة (طبعا نسخة منها) على سطح نهر السين.
ومع مرور الدقائق، يظهر المقنع ممتطيا فرسا معدنيا آليا يركض فوق الماء، ومرتديا على ظهره علم اللجنة الأولمبية الدولية، الأبيض والمكون من 5 دوائر ترمز إلى القارات الخمسة، وحاملا للشعلة الأولمبية المتقدة رغم المطر.
يمتطي المقنع حصانا على جسر “تروكاديرو”، متوجها صوب المنصة الرئيسية، وبشكل مفاجئ وصادم، يظهر زيدان من جديد ويتسلم الشعلة، وفي تلك اللحظة التي ظن معها الجميع أن “زيزو” هو من سيوقد الشعلة في المرجل الأولمبي، يظهر رياضي لا يقل نجومية عن الساحر الفرنسي، ويتعلق الأمر بأحد أساطير التنس الإسباني رافاييل نادال المتوج بـ 14 لقبا في بطولة “رولان غاروس” الفرنسية.
هذا المشهد الصادم لم يكتمل بعد، فنادال حاملا الشعلة يركب قاربا بمعية نجوم آخرين كلاعبة التنس الأمريكية سيرينا ويليامز ومواطنه العداء كارلس لويس، وأسطورة الجمباز الرومانية نادية كومانشي، والوجهة ما تزال مجهولة.
طبعا لم يكن ممكنا أن يتولى أجنبي إيقاظ الشعلة، وتسلمها مجموعة من الرياضيين كلاعبة التنس السابقة إميلي موريسمو ولاعب كرة السلة توني باركر وآخرين ضمنهم رياضي يعد أكبر فائز بلقب أولمبي ما يزال على قيد الحياة، لتصل الشعلة في النهاية إلى الثنائي أسطورة الجيدو تيدي رينر والعداءة السابقة ماري جوزيه بيريك، ويتكفلا بإيقاظ الشعلة الأولمبية على مرجل شكل قاعدة منطاد طائر سيظل محلقا طيلة مدة إقامة الأولمبياد التي ستختتم في الـ11 غشت القادم بملعب “سطاد دو فرانس”.
لكن أكثر اللحظات تأثيرا، بشهادة كل من تابع هذا الحفل المجنون، كانت عندما ظهرت المغنية الكندية سيلين ديون، على منصة ببرج إيفل، مؤدية أغنية “نشيد الحب” بطريقة خلابة، ومتحدية مرضها النادر التي فرض عليها الغياب طيلة 4 سنوات، مبهرة الكل بظهور مفعم بالمشاعر الجياشة لفنانة يحبها الجميع، وتحب الجميع.
> صلاح الدين برباش