الدستور في حاجة إلى سياسيين

ابتلي حقلنا السياسي، والإعلامي أيضا في أحيان كثيرة، بتركيز النقاش الوطني على الثانوي من القضايا، وإغفال كل ما هو جوهري وأساسي ومهيكل لمستقبل البلاد، وليس كل هذا الضجيج المتأجج حول جلسة مساءلة رئيس الحكومة في البرلمان إلا أحد تجليات ذلك. الأغلبية الساحقة من مكونات حقلنا الحزبي والنقابي والإعلامي دافعت عن دستور 2011 وأيدته، ودعت إلى التصويت لصالحه، واعتقدنا جميعا أن طبقتنا السياسية ستنكب مباشرة على تفعيل أحكامه، وتوفير الآليات المؤسساتية والقانونية والتنظيمية لتطبيقه، أي جعله فعلا ملموسا على الأرض يدركه الناس، لكن كثير مواقف و(معارك)وخرجات قررت لنفسها أن تبقى سجينة الهوامش، ولا تنفذ إلى العمق.
لقد كان من الأولى جعل بداية البدايات هي أن يتم تكريس دينامية سياسية ومؤسساتية جديدة في البلاد، تعطي هي نفسها الدليل على أن شيئا ما قد تغير في البلاد وفي دستورها.
لكن عكس هذا تابعنا مسلسلا عبثيا انخرط فيه أكثر من طرف، وليس له من غاية سوى(وضع العصا في العجلة)، وتفرجنا بأسى على مشاهده في جلسات البرلمان، ومن خلال المواقف والبلاغات والتصريحات و…تيه الكلام وساقطه.
النتيجة، أن كثير إصلاحات يتم كل مرة تأجيلها، والقوانين التنظيمية أيضا معلقة، والبرلمان نفسه لم ينجح حتى في الاتفاق على مضامين نظامه الداخلي، وفي التفاصيل قيل كثير كلام جارح، واتخذت مواقف بلا معنى، وبقيت البلاد رهينة كل هذا اللعب الصغير جدا.
البلاد ليست بلا مخاطر أو مصاعب، وشعبنا لديه مطالب وانتظارات، لكنها طبقتنا السياسية اختارت عدم الإنصات، ودخلت دائرة العراك المجنون بين بعض مكوناتها، ونسيت أن كل هذا لا ينتج حلولا، ولا يفتح آفاقا، ولا يحقق الإصلاحات.
تتوفر بلادنا اليوم على دستور متقدم عن كل سابقيه، وعن دساتير كل بلدان المنطقة، لكنه معلق، وليست لدينا طبقة سياسية تستحقه.
تتوفر بلادنا على دستور متقدم، لكن أطراف لم تقبل بعد التخلي عن نظاراتها القديمة لما قبل فاتح يوليوز 2011، وهي تواصل اليوم لعبة التحريك من وراء الستائر، وكأنها تسعى إلى توقيف كل شيء، ثم العودة لتكرار البدايات، ولا يهمها مستقبل البلاد، ولا صورته.
من يريد اليوم إذن أن يعود بالمغرب إلى ما قبل فاتح يوليوز 2011، أي إلى البداية ؟
انه السؤال الذي يقتضي ليس فقط البحث عن جواب له، أو البحث عن هذا الفاعل، وإنما أيضا البحث عن المنفذين، سواء نفذوا لغاية أو نتيجة تكليف ما، أو فقط لهوى ذاتي أو لحساب فردي، فكل هؤلاء يتوزعون المسؤولية في الذي يجري هنا والآن.
عندما صارت المطالب في برلماننا السعيد تركز على من سيكون له الوقت أكثر من سواه ليخطب على المغاربة، فتلك العلامة أننا فعلا لم ننفذ إلى العمق بعد، ولن ننفذ، على كل حال، إلا بصدق النوايا، وباستقلالية القرار الحزبي، وببعد النظر، وبالانتصار أولا وأخيرا لمصلحة البلاد ومستقبلها.

Top