صدرت رواية ” المدينة التي” لكاتبها القاص المغربي هشام ناجح سنة 2012 عن المحلاج، وهي من الحجم المتوسط وتضم 80 صفحة. ولهذا الكاتب الشاب الذي بدأ يحفر اسمه في السرد المغربي، بالإضافة إلى هذا العمل الروائي الأول الأعمال المنشورة التالية: – مجموعة قصصية مشتركة مع مبدعين مغاربة تحت عنوان “حتى يزول الصداع”. – مجموعة قصصية مشتركة مع مبدعين عرب بالقاهرة تحت عنوان “واحات من جنان القناديل”.- مجموعة قصصية تحت عنوان”وشم في السعير”. – مسرحية تحت عنوان “أبدية الروح” عن دائرة الثقافة والإعلام بحكومة الشارقة.
رواية “المدينة التي”
في هذه الدراسة سأحاول الإحاطة ببعض التقنيات المستخدمة في هذا العمل الروائي. لن أقوم بتحليل الرواية كخطاب ولا سبر أغوار سياقها أو سياقاتها المختلفة ولن أناقش بشكل مفصل أحداثها وكذا العلاقات الاجتماعية المتواجدة بين الشخصيات، ولن أحاول تقسيم هذه الأخيرة إلى شخصيات رئيسية وشخصيات ثانوية. ما سأقوم به هو دراسة الرواية كبنية أو وحدة محاولا تحديد ميزاتها الفنية المختلفة وتحليل بعض الخصائص الجمالية التي تميزها اعتمادا على المنهج البنيوي. لهذا فعملي سيستمد روحه من النص أولا وأخيرا، أي أن النص هو المنطلق الأساسي للتحليل. أساس هذه الدراسة ينبني على الفرضية التالية: – ليس هناك عمل روائي مكتمل مستعيرا في ذلك قولة باختيــن: “الرواية هــي الجنــس الوحيــد الــذي هــو فــي صيــرورة ومــا يــزال غيــر مكتمــل”.1انطلاقا من هذه الفرضية تحاول هذه الدراسة الإجابة على السؤالين البحثيين التاليين:- كيف يمكن تصنيف رواية ” المدينة التي”؟- ماهي الخصائص الفنية لهذا العمل الروائي؟بعد قراءتي لهذا العمل الروائي انطلاقا من الأسئلة التي طرحتها مسبقا، خلصت الدراسة إلى الكشف على أن صاحبه اشتغل على مجموعة من التقنيات ميزت كتابته سأوردها فيما يلي: وجهت الرواية القارئ منذ البداية نحو سياق معين: “حدث هذا في بلدتي بعد أن أشعلت الحرب الكونية الثانية نيرانها وأرغمتنا المجاعة عام الزوين سنة 1939 على الرحيل إلى مدينة الدار البيضاء….”(ص.11). بعد هذا التوجيه المبكر، سيعتقد القارئ وهو يتجول بين ثنايا الرواية أنه سيواصل تتبع خيوط حكاية، ابتدأت من الهجرة إلى البيضاء، إبان الحرب العالمية الثانية، إلا أنه سيجد نفسه أمام بورتريهات “لحيوات متجاورة” أو منفصلة لشخصيات تتبادل الأدوار داخل المتن الروائي. فـ”المدينة التي” تكسر المفهوم التقليدي للرواية باعتبارها حكاية لها بداية ونهاية، وأحداث متسلسلة بدقة متناهية وباعتبارها تجسيدا لصراع وتفاعل قوي بين شخصياتها. تفضل الرواية على العكس من ذلك النبش في الحياة الاجتماعية لبعض الشخصيات characters)) ومن خلال النفاذ إلى حالتهم النفسية بلغة بسيطة لا تكلف فيها، طغت عليها الدارجة المغربية في بعض الأحيان، نظرا ربما لانتماء شخصيات الرواية إلى فئات اجتماعية مقهورة ونظرا ربما لتفاعل “الراوي” معها. وبالتالي، كان الهدف هو تمثلها وتجسيدها بقوة أيضا على مستوى خطابها. غير أن أكثر ما يتميز به العمل هو روعة السرد. من خلال ما سلف ومن خلال ما سأناقشه في المحور الثاني أستطيع أن أقول أن الرواية لا تعتبر تاريخية رغم سياقها المعروف ولا كلاسيكية وواقعية أيضا ولكنها رواية تنتمي إلى التيار الحداثي الذي نشأ في بداية القرن العشرين منتفضا على الرواية الواقعية ومستخدما تقنيات جديدة أهمها الوصف، الحوارات الداخلية، تيار الوعي وغيرها. ويمثله العديد من الروائيين المعروفين، أمثال: جورج أورويل، فييرجينيا وولف، جيمس جوويس، إرنست همنغواي وغيرهم..2 الكاتب أو السارد والراوي أو العلاقة الغريبة/العجيبة ما يثير الإعجاب ويستدعي الانتباه في الآن نفسه هو هذه العلاقة التي سطرها منذ البداية الكاتب مع الراوي. فقد أقر الكاتب أو السارد بصداقته للراوي، ومن خلال هذه العلاقة، سيعيش القارئ عدة حالات ومشاهد تتسم تارة بالاتفاق والإعجاب المتبادل وتارة أخرى بالاختلاف إلى درجة الرفض والإلغاء للآخر. الجميل من هذا كله هو وجود السارد والراوي على نفس المستوى من الفعل داخل الرواية، حيث يمكن اعتبارهما ولو مجازا أنهما ليسا من ورق، وفي خطوط متوازية إلى حد ما يتبادلان الأدوار داخل العمل الروائي بطريقة سلسة وتضفي نوعا من السخرية على عالم “المدينة التي” وتخلق لا محالة لذة لدى القارئ: ” كان يوما غير عادي كما حدثنا الراوي والعهدة عليه طبعا. يبدو أنني أشاركه مجموعة من الأحداث. صادفته في العديد من المرات يلتهم خبزه الجاف الممزوج بطعم تلك الأيام العجاف التي يشيب لها الولدان” (ص. 11). فالرواية تقوم إذن منذ البداية على تكسير المفهوم الكلاسيكي للشخصيات الروائية التي تستمد -حسب نظر هذا المفهوم- خصائصها ومميزاتها من طرف الكاتب، هذا ما نجده مثلا في تعريف إ.م فورستر الذي يعتبرها “إبداعات داخل إبداعات” 3 طبعا هذا التعريف سيتم تجاوزه مع التحليل البنيوي الذي سيعتبر الشخصية في الرواية، ليس فقط كائنا بشريا أو كائنا حيا ولكن فاعلا حقيقيا، وهذا ما نجده في أعمال بارت، كريماس وتودوروف، هذا الأخير الذي يؤكد على أن تحليل شخصية ما في الرواية يتم في إطار علاقتها مع الشخصيات الأخرى المشكلة للعمل.4 انطلاقا مما سبق، فالراوي في رواية “المدينة التي” ليس خارج الأحداث ولكنه داخلها بل وفاعل حقيقي فيها، وقادر على التحدي والاستفزاز أيضا: “الراوي يخالفني الرأي ويسند إلي بنعنعته موضحا الظروف الجديدة التي حفت هذه الرحلة. “(ص.12) نستطيع هنا أن نتحدث عن “موت الكاتب”، كما عبر عن ذلك رولان بارت في مقاله الشهير الذي يحمل نفس العنوان5، وطيلة هذا العمل الروائي سنجد أن الراوي يتمتع بحرية مطلقة إلى حد ما يوظفها كيفما شاء ومتى شاء، يختلف مع الكاتب، يتفق معه ينصحه، يفعل الخير أحيانا. إلا أنه رغم هذه الحرية، فيبدو أن الكاتب ألصق به جميع أنواع “المعاصي” و”الفضائح”، بحيث يحس القارئ أن الكاتب ضحية ليس إلا وأن كل دروس “التسكع” و”الرذيلة”، “إذا اعتبرناها كذلك”، يستقيها ويتلقاها من الراوي معلمه الحقيقي: ” كان الراوي على حق من خلال وصفه للبيت ولطريقة حليمة الممتعة في جذب الشهوة إلى النفوس الظمآنة ومن يومها استطردت: ألوك أبجديتي الجنسية التي كنت أراها بعيدة المنال عن أمثالي من الحفاة العراة” (ص. 19).
الزمن وتوظيفه في الرواية
الزمن في الرواية متعدد ومتحرك، والكاتب ينتقل بالقارئ من زمن إلى آخر بسلاسة عجيبة كما في المثال التالي: “أنتم معشر المغاربة لا تستهويكم الحياة العصرية، ستندم فرنسا على إسرافها في توجيهكم. لم أكلف نفسي فهم هذه السخافات. ما يهمني هو التلذذ بالحياة. أرحنا جسدينا بقيلولة قصيرة. ارتشفنا قهوة سوداء ذات نكهة مختلفة. لقد ألفت قهوة سلام العطار الممزوجة بالزنجبيل والقرفة.” (ص.30) بعد هذا الحوار مباشرة ينتقل الكاتب بصفته ساردا للأحداث إلى سياق آخر عام، مستعملا الفعل الماضي وذلك بطريقة سلسة أيضا:”انتشر التوتر وزاد حرص الفرنسيين على تقفي أخبار الوطنيين، وطالت الاعتقالات العديد من الأبرياء.”(نفس الصفحة). بعد هذا الاستطراد الجميل وبدون الحاجة إلى استعمال أدوات الربط التي تتميز بها لغتنا العربية، يعود الكاتب لاستعمال فعل الحاضر ليتناول الحديث عن سياق أكثر خصوصية وتحديدا: “يصبح وجه البيضاء شقيا للغاية ويزيد قبحه ونحسه. أوهم حليمة بالمبيت…”.(نفس الصفحة). ثم يعود مرة أخرى إلى استعمال فعل الماضي بنفس السلاسة وذلك لإكمال الحديث عن علاقته بإحدى شخصيات الرواية: “كانت سنة ثلاثة وخمسين حدا فاصلا بيني وبين ستيفاني.غادرت المغرب….”(ص.31) لعبة الزمن هاته ستتكرر كثيرا داخل العمل الروائي.
الجنس داخل الرواية
لم يوظف الجنس في الرواية كتيمة فقط محددة لمجموعة من العلاقات الاجتماعية ولكن الجنس تم توظيفه بطريقة تبدو أنه فاعل حقيقي في مجموعة من الأحداث و علامة أساسية في توصيف العديد من السلوكات النفسية. لم يتم استعمال الجنس بشكل مجاني كرمز للقوة والسيطرة ولكنه استعمل كرمز طبيعي للذة والشهوة واتخذ في الكثير من الأحيان ليفضح العديد من التناقضات المجتمعية.فانتقل بذلك بدوره من مجرد موضوع إلى فاعل أو شخصية مجردة تمثل حلقة وصل بين خيوط الرواية المشتبكة.
كثافة الوصف
تتميز “المدينة التي” بكثافة الوصف، وصف غدت فيه التفاصيل الدقيقة في غاية الأهمية من أجل تحديد معالم حالة معينة أو حدث معين في سياق معين.من خلال الجنوح إلى هذه التقنية،يبدو السارد وكأنه يتجول بكاميراه ملتقطا ما يصادفه بدقة متناهية كما في المثال التالي:”وجدت والدتي كعادتها بفمها الأحمر من فرط السواك وعينيها الكحيلتين وهي تدندن مبتهجة أمام عجينتها. ستعد “الملوي” الذي يحبه حمادي، تعلم أن الكرش له حساسية مفرطة، لا بد للمرور عليه ليمتثل القلب لأوامر اللوعة الشقية، تبذل قصارى جهدها من أجل تحضير شهوات هذا الفحام حتى يطاوعها ليلا على فراش المتعة. وضعت القفة والكيس معا وكذلك ملابسي البالية. طلبت من والدتي تصبينها حتى أعود إليها ثانية لكي لا تستشعر حليمة خيانتي ،خرجت على وجه السرعة رغم إلحاح والدتي على شرب الشاي قاصدا بيت ستيفاني أبحث عن رغد العيش، أمشي بحذر بليغ خوفا من أولئك الجنود الزنوج. وجوههم تبعث على الذعر والرهبة.كان الصغار يثيرون حقدهم ويسبونهم ويفرون…”(ص.28 و29). يمكن إجمالا القول أن رواية “المدينة التي” للكاتب هشام ناجح تستحق القراءة والمتابعة نظرا لتوفرها على العديد من المقومات الفنية تجعلها جديرة بذلك. رواية جميلة على مستوى لغتها السردية: السلاسة، الانزياح المرن، الاستطراد والوصــــف الكثيف. هذا، رغم ما قد يعاتبه بعض النقاد على الكاتب نقله لبعض العبارات من الدارجة المغربية إلى اللغة الفصحى بطريقة قد تفقدها دلالاتها وغايتها وقد تؤدي إلى نوع من اللبس والغموض، خصوصا لدى القارئ الذي ليس له إلمام بالثقافة الشعبية المغربية كما في هذا المثال على سبيل الذكر: “فقد عمل الجبر على سلخ يدي وهو ضرورة ملحة لأخذ الصنعة”. (ص.32). ويبدو أن الروائي هشام ناجح متأثر في ذلك بنظرية باختين في الرواية والذي يصنفها هذا الأخير أدبا شعبيا يعبر عن الفئات المقهورة، وترجم الكاتب ذلك على مستوى الخطاب باستخدامه لغـة بسـيطة تحوي عـبارات “مبتذلة” في بعض الأحيان ترمي إلى التعبير عن الرفض، والسخط والاحتجاج على السائد والمألوف وكنوع من الثورة ضد كل أنواع القهر والتهميش. أخيرا، لا بد من الـتأكيد على أن الكاتب نجح أيضا في اختيار عدم تقسيم الرواية إلى فصول وتركها مفتوحة، وهو محق في ذلك لأن كل صفحات الرواية لا تستقر على حدث بعينه ولا عن سياق خاص أو تيمة معينة أو زمن متفرد. لهذا، يصعب تسييجها داخل فصل أو ما شابه ذلك و سيجد القارئ متعة في قراءة “المدينة التي” بهذه الطريقة التي تبناها صاحبها.
هوامش ومراجع
1- ميخائيل باختين ، الخطاب الروائي، ترجمة محمد برادة، دار الفكر للدراسات والنشر والتوزيع، الطبعة الأولى، القاهرة 1987 ، ص132- Brown, Dennis. The Modernist Self in Twentieth-Century English Literature: A Study of Self-Fragmentation. Hampshire & London: The Macmillan Press Ltd., 1989.3- Forster, E. M. Aspects of the Novel. London: Edward Arnold, 1927,p.71. 4- TODOROV, Tzvetan, Poétique de la prose, Paris : Seuil.,1971.5- Barthes, Roland. ?The Death of the Author.? Art and Interpretation: An Anthology of Readings in Aesthetics and the Philosophy of Art. Ed. Eric Dayton. Peterborough, Ont.: Broadview, 1998. 383-386. Prin
بقلم: مراد الخطيبي