المشاحنات التي أحاطت بمشاورات تشكيل الحكومة، منذ الإعلان عن نتائج اقتراع سابع أكتوبر الماضي وتكليف جلالة الملك زعيم الحزب المتصدر لها برئاسة الحكومة وتكوينها إلى غاية صدور بلاغ الديوان الملكي القاضي بإعفائه وتعيين شخصية بديلة من نفس الحزب لتولي هذه المسؤولية، أبانت كلها على أن بلادنا دخلت مرحلة أخرى مختلفة في موضوع بناء مؤسساتها وفِي علاقات ووضعيات ومفردات التمرين الديمقراطي الداخلي.
ليس القصد هنا إعطاء حكم قيمة لهذا التغير، وإنما فقط تسجيله، والانتباه إلى أنه برغم كل ما قيل وكتب، فإننا بالفعل نحن بصدد مرحلة أخرى، قد تبرز أكثر في المستقبل، وقد تتبلور معالمها النهائية أو تداعياتها أو تجلياتها على مستوى منظومتنا السياسية والمؤسساتية العامة.
ثانيا، لا بد أيضا أن ندرك أن ما شهدته بلادنا في الأيام الأخيرة، جعل الأنظار تتوجه نحو الحزب المعني بها قبل غيره، أي حزب العدالة والتنمية، الذي اجتمعت أمانته العامة مباشرة عقب صدور بلاغ الديوان الملكي، ثم عقد دورة استثنائية لمجلسه الوطني بعد ذلك.
وإذا استحضرنا الوضع العام لبلادنا وسياقات المحيط الإقليمي، وأيضا مستقبل مسارنا الديمقراطي الوطني، فإننا سنفهم حقيقة الوضع الصعب جدا الذي كان عليه العدالة والتنمية، وأيضا دقة الأسئلة التي كانت مطروحة أول أمس أمام أعضاء قيادته.
إن من يعتقد أن صياغة الجواب كانت أمرا سهلا فهو لا يفهم ولا يرى أبعد من أنفه، ومن لم يدرك دقة اللحظة فهو لم يستوعب أهمية ما حدث ولا يحسب سوى لوحده، وأي حزب آخر كان في وضعية العدالة والتنمية كان ربما سيعيش ذات الصعوبة، وربما أشد تأثيرا.
لكل هذا إذن، يمكننا فعلا أن نقول بكل موضوعية إن الحزب المذكور انتصر في الأخير على ذاته، وقام بالاختيار الأصلح لبلادنا والممسك بأفق البناء والسير إلى الأمام، وتدبير الممكن في السياسة.
الاختيار صعب بالفعل في قاموس الذات والأنانيات الفردية، وفِي ميزان الحساب الحزبي والتنظيمي، ولكنه، في عمقه، هو انتصار للبلاد ولمصلحتها العليا، وللمستقبل.
هنا التحية يجب أن توجه لقيادة العدالة والتنمية، وأن توجه، بالخصوص، إلى الأستاذ عبد الإله بنكيران، وأيضا إلى الدكتور سعد الدين العثماني، وإلى باقي قياديي ومسؤولي الحزب.
الشماتة وتفاهة الكلام التي اشتعلت في الأيام الأخيرة حوالينا من خلال كتابات شاردة أو تدوينات تفتقر إلى العقل وإلى… التربية، واستهدفت عبد الإله بنكيران، هي سقطات حقيقية على سلم الأخلاق والنضج السياسي وبعد النظر.
قد نختلف بالفعل مع بنكيران في أشياء كثيرة، وقد نوجه له هذا المأخذ أو ذاك، ولكن لا يمكن أن ننزع منه حقه في الدفاع عن حزبه وعن المرتبة الانتخابية التي بوأه إياها شعبنا، ولا يمكن أن ننكر كل المرونة التي أبان عنها، أو ننكر صدقه ونزاهته ووطنيته.
وعلى كل حال، فبالرغم من كل ما سلف، فإن المهم اليوم هو أن تجتمع إرادة كل الأطراف الحزبية المعنية، وأن تتجاوز كلها الحسابات الذاتية، وأن تنجح في تشكيل الحكومة في أقرب وقت، وأن تجعلها حكومة قوية تعبر عن الإرادة الشعبية، وتحظى بسند وثقة جلالة الملك، وأن تجسد الاختيار الديمقراطي وتنتظم ضمن هيكلة حكومية ناجعة، وأن تستمر في نهج الإصلاح تعزيزا للمسار الديمقراطي والتنموي ببلادنا، وذلك من خلال برنامج حكومي يتميز بمضمون اجتماعي قوي يواصل بلورة وتفعيل سياسات عمومية تهدف إلى النهوض بأوضاع الفئات المحرومة، والتصدي لمظاهر الفقر والهشاشة…
لقد عشنا كلنا إذن توالي كل ما حدث منذ سابع أكتوبر إلى اليوم، وشهدت مشاورات تشكيل الحكومة ظروفا عصيبة وتقلبات عديدة وممارسات عبثية متعددة، وخلاصة كل هذا أن المهمة لم تكن سهلة، والنجاح لم يحالف، في الأخير، بنكيران، وشعبنا بقي يتطلع إلى ضرورة تجاوز هذا الانسداد الذي طال أكثر من اللازم، وفِي الأخير اعتمد جلالة الملك صلاحياته الدستورية، وتدخل لمحاولة تفكيك تعقيدات البلوكاج، وكان قراره منسجما مع معنى النص، وممتلكا لمضمونه الديمقراطي، ثم جاء التفاعل الإيجابي الذكي من طرف الحزب المعني، وبناء عليه، نحن اليوم في وضعية جديدة، وسيجري استئناف المشاورات بين الأطراف ابتداء من اليوم.
الكرة الآن لدى باقي الأحزاب المعنية بتكوين الحكومة، والتي سيجتمع معها رئيس الحكومة المعين، وعلى الجميع استحضار الوضع العام في البلاد، والوعي بما هو مطروح من تحديات تنموية ووطنية وإستراتيجية، والانتصار أولا لرغبة شعبنا، والسعي للنهوض بأوضاعه وتلبية تطلعاته ومطالبه، والحرص على وحدة المغرب واستقراره وتميز نموذجه المؤسساتي والديمقراطي والتنموي.
إلى العمل إذن…
محتات الرقاص