يعد عبد الله فراجي من الشعراء القلائل الذين يجمعون في كتاباتهم بين الحداثة والتأصيل. ذلك أنه نظم في الشعر التفعيلي كما في ديوانه: “المرآة والبحر” (2010)، و”مسافر في الضباب” (2013)، و”تراتيل الجمار الخابية” (2018). ونظم في الشعر العمودي كما في ديوانه الأخير: “لباب العشق والمكاشفة” (2019)؛ بل إن اهتماماته امتدت لتشمل فن القصة القصيرة كما في “خطوط ومنعرجات ” (2014). وفي مجال الترجمة من خلال عمله: “انبثاق كالنهر يجري” (2016)، إلى جانب مجموعة من الأعمال المرتقب صدورها لاحقا.
وبفضل هذا التعدد الأجناسي، استطاع الشاعر عبد الله فراجي أن يكتسب، بأسلوبه وجدة موضوعاته، ثقة القراء، ويحتل مكانة رفيعة ضمن زمرة من الأدباء والشعراء الطليعيين في المغرب والعالم العربي.
وتأتي مقاربتنا لديوانه “تراتيل الجمار الخابية” استجابة لهذا الحضور المائز، وهي ثاني محاولة بعد سابقة لها همت ديوانه “المرآة والبحر”، والتي وقفنا فيها على مجموعة من الأبعاد الدلالية والجمالية، وتحديدا ما تعلق بالعتبات النصية الخارجية منها والداخلية.
وبالرغم من نزوعنا في ” تراتيل الجمار الخابية” نزوعا موضوعاتيا بسبب هيمنة تيمة الليل فيه، فإن ذلك لن يعفينا من ملامسة بعض المظاهر النصية الثاوية في ثناياه.
رمز الليل في الشعر العربي.
كان الليل ولا يزال يشكل مصدر غنى للإلهام الشعري لدى القدماء والمحدثين من الشعراء. فمنهم من اعتبره رمزا للشباب يقتنص هنيهاته لإرواء أهوائه ورغباته، وإشباع نزواته، بعيدا عن العسس وعيون الناس. ومنهم من رأى فيه خزانا للأسرار، وملتقى الأحباب والعشاق. في الوقت الذي اتخذه رجال الدين ملاذا لهم من صخب الدنيا وبليات الحياة، يرددون خلاله الأذكار، ويقيمون الصلوات تقربا إلى الباري بديع الأرض والسماوات.
وإذا كان لليل وظيفة التستر والاختباء من عيون المناوئين والأعداء، فإن له وظيفة الاستراحة والاستكانة من أعباء النهار مصداقا لقوله تعالى:”وجعلنا الليل لباسا والنهار معاشا”(1). ومن آياته تعالى أن ذكر الليل في القرآن الكريم اثنتين وتسعين مرة. ومن آياته وحكمته كذلك أن جعل الليل في مقابل النهار، حيث قال جل جلاله: ” وجعلنها الليل والنهار آيتين، فمحونا آية الليل وجعلنا آية النهار مبصرة لتبتغوا فضلا من ربكم ولتعلموا عدد السنين والحساب وكل شيء فصلناه تفصيلا” (2) . وقال جل من قائل: “وآية لهم الليل نسلخ منه النهار فإذا هم مظلمون.”(3)
إلا أن بعضهم لم يكن حظه من الليل إلا جوانبه المظلمة، متخذينه رمزا للمآسي بما يعرضون له في حياتهم من أنواع الهم والبلايا، وصنوف الرزايا. لهذه الأسباب وغيرها، سيعرف لفظ الليل، في الشعر العربي، حضورا لافتا ترتبط دلالته بالذات بما تختزنه من مظاهر وجدانية، وبالمجتمع بما يعج به من مظاهر اجتماعية، سياسية، وطنية وقومية.
هذا ويعود اختلاف رؤى الرائين لليل ونظرتهم إليه، فضلا عما سبق، لتأثرهم بالتصورين العربي والغربي.
وتكفينا الإشارة هنا إلى مجموعة من محاولات الشعراء الذين وقفوا عند ظاهرة الليل هذه، فأفاضوا فيها الحديث بعد أن تملكهم جراءها ما يكفي من الدهشة والانبهار. يقول امرؤ القيس في وصفه لليل متجاوزا شعراء عصره:
وليل كموج البحر أرخى سدوله
علي بأنواع الهموم ليبتلي
فــقلــت له لـما تـمـطى بـصـلـبـه
وأردف أعجازا وناء بكلكل
ألا أيها الليل الطويل ألا انجلي
وما الإصباح منك بأمثل
ويقول أبو فراس الحمداني مادحا نفسه، ذاكرا ومذكرا بفضله على قومه، مشبها نفسه بالقمر الهادي في ظلمة الليل:
سيذكرني قومي إذا جد جدهم
وفي الليلة الظلماء يفتقد البدر
ويقول المتنبي في قصيدة “وا حر قلباه!”:
الخيل والليل والبيداء تعرفني
السيف والرمح والقرطاس والقلم
و يقول أحد الشعراء في بيت يقترب من المتنبي:
الورد والليل والأحلام تعرفني
والجمر والنار والقرطاس والقلم
أما الشاعر عبد المعطي حجازي فيعبر عن الليل بشكل رمزي، معلنا عن اندهاشه من عودته بدون شتاء:
الليل عاد مرة أخرى وما عاد الشتاء
والأرض عطشى للدماء. (4)
تيمة الليل في ديوان:” تراتيل الجمار الخابية”.
مؤثثات الديوان:
* عتبة العنوان:
لن يكون بإمكاننا القبض على تيمة الليل في مختلف فضاءات الديوان إلا عبر تفكيك عتبة العنوان، باعتبارها مفتاحا لاستكناه معاني النص وفهم أبعاده ودلالاته.
لقد كان من شأن تركيبة العنوان الإضافية أن انزاح فيها لفظ “تراتيل”، الذي يوحي أصلا بما هو ديني، إلى دلالة مجازية أملتها السياقات النصية ليصبح، بموجب الشواظ، مرادفا لترانيم الأحزان التي
ما فتئت تلقي بظلالها/ جمارها، على كل مناحي حياة الشاعر، تداهمه فتملأ عليه عالمه. وبذلك تكون كلمة تراتيل قد اكتسبت معناها من طبيعة علاقتها بالجمار المنسوبة إليها، إن مشتعلة أو خافتة، بما تخلفه على نفسية الشاعر من ألم دفين وحزن عميق تبدو معالمهما واضحة على محيا الشاعر في شكل خطوط غائرة محفورة، تشي بكثير من الأحمال وتسر بمثيلاتها من الأسرار.
وإلى جانب ما يحمله العنوان من تراتيل الحزن وترانيم الأسى، تحضر اللوحة لتكرس بالصورة مفهوم السواد عكس ما تحمله عادة دلالة الورد الإيجابية، فيزداد الوضع حلكة وقتامة ينذر بنهاية غير سعيدة.
في غمرة هذا الابتلاء الضنكي المتعلق بظلمة الليل وسواد الورد، سيكون للأمر شأن بعدي، مرتبط بدوائر الليل التي ما فتئت تحاصر الشاعر في الزمان والمكان، لتدون بمداد” التراتيل” على شكل سمفونية حزينة تتوزع تباريحها بين لغة الليل ولغة النهار، بين الاحتراق والانبثاق، مما لا يشتهيه المهمشون والحزانى.
ويؤثث الديوان، فضلا عن العنوان واللوحة، ثمانية عشر قصيدة، يمثل الليل ومرادفاته فيها دلالة مهيمنة (54 لفظة) تتماهى بشكل تام مع تراتيل الجمر المشتعلة منها والخابية. وسوف نقف، ضمن هذه التراتيل في علاقتها مع الليل، على أربعة منها تستجيب لما نرومه في هذه القراءة.
* تراتيل جمار العشق:
هذه التراتيل الأربعة، وإن كانت تحقق للشاعر نوعا من الإشباع النفسي، فإنها لا تعدو أن تشكل واجهة من واجهات التصدي، تتساوق بموجبها ثنائيات ضدية تكرس لقاعدة: “التناقض أساس الحركة”، وهي ثنائيات تقبل التجاور بديلا عن التنافر من قبيل: الحلو والمر، النور والظلام، الواقع والحلم، الجوهر والعرض، المادة والروح.. وثنائية العشق والكراهية أو الليل والنهار، بما يرمز له طرفاها من قيد وتحرر. وتكتسي هذه التراتيل العشقية أهمية جوهرية في حياة الشاعر بما يحييه حضورها أو تطوح به غياباتها في غياهب العبث واللامعنى.
وسيعرف هذا العشق حضورا لافتا على امتداد فضاءات الديوان عبر نماذج متعددة، نذكر منها ما ورد في قصيدة”مكاشفة” حين يقول الشاعر:
في القلب جرح غائر قد أثخنك،
وعلى جبينك وشم عاشقة كوتك بحمقها
والحزن ذاك المقرف،
استعدى عليك الحرف والأشعار (5)
وقصيدة:” طقوس الانفطار”، حين يقول:
في بعدها عني
إذا انكشف الهوى
صوت الرماد وجمرها (6)
وحيث يقول في قصيدة:”عشق في الأعين الواجفة”
وعلى شواطئ بحرها اللامتناهي
يتورد العشق (7)
على جمرة في جراحي (8)
ولمظ الجمار (9)
في خندق الأشواق تهت
وما اعترفت،
ولذت بالعتبات زهوا..
واحترقت (10)
أرى قلبها لا يبالي،
وفي مهجتي وشمها خط سحرا..
وفي عشقها نار قيس وليلى..
وقلبي الجريح ارتمى في الصبابة غفلا.. (11)
ويستمر الشاعر في التغني بعشقه، رغم عذاباته في قصيدة:” خمرة الذكريات”، و”عشق في الأعين الواجفة” قبل أن يعلن في النهاية عن وجود عاشقات:
إني هنا في حضن عاشقتي
وقد قبلت كل شقائق النعمان
كل الآس والريحان. (12)
وبذلك يكون الشاعر قد تعلق بالعشق لدرجة اكتسابه رئة يتنفس بواسطتها.
*- تراتيل جمار الرفض والمعارضة:
إذا كانت قصائد تراتيل العشق، التي أتينا على ذكرها، بدءا من “مكاشفة” فاتحة القصائد حتى “كأس زلال”، تمثل، إلى جانب أخرى غيرها مدخل العشق ومخرجه، فإنها تؤسس في الآن نفسه لخطاب سياسي معارض يحمل في تراتيله كثيرا من بوادر خطاب ينم عن رغبة فولاذية، جامحة للمكاشفة والتثوير والتغيير. ويمثل هذا الشق من التراتيل الصدامية كل من القصائد التالية: أخطو على دربي وحيدا، لا شيء تغير يا سيزيف، سوناتا الموت والفرح، أدراج الليل والهباء، عتبات السؤال، اختلال الظل المنضود، طقوس الانفطار، سجف التمرد والجنون.. حيث يتنقل فيها الشاعر من الأنا المثخنة بالعشق ولغة المشاعر والدلال، إلى لغة النحن، لغة التمرد على الواقع، وتحطيم صروح الليل المضروبة عليه نفسيا واجتماعيا وسياسيا. يقول الشاعر:
الظلمة والأشباح تسيج خطوي
الليل يحاصرني بجنون
والقيثارة بين يدي تموسقني،
آه يا بؤسي!!
يا ليل تمهل في خنقي
يا ليل ترفق في جلدي
لا تكسر أحلامي. (13)
وحيث المؤشرات توحي بالخيبة والفشل في إيقاف أمواج الليل المجحفة، وحيث تتسع دائرة تباريح الجمار الخابية، لن يكون بإمكان الشاعر أن يتحمل وزر المواجهة وحده، ويغير ميزان القوى كما يقول:
ولم أدرك أنني أبحرت وحيدا في بحر الظلمات. (14)
وأمام سوء الأحوال هذه، المخيبة للآمال، كما يؤكدها الشاعر نفسه قائلا:
إني أرى قلبي تهالك نبضه
وارتد من درن إلى درن، (15)
إني أرى القمر المنور قد ذوَى
خلف الغيوم وما بدا. (16)
سوف يجد الشاعر نفسه مضطرا إلى الاستقواء بالرمز والأسطورة، لما يوفرانه من صبر وتصبر في التحمل، وما يتيحانه من قوة مضاعفة في الترحال، وثبات في النزال، من خلال توظيف شخصيات أوديسيوس، دون كيشوط، الحجاج، الحلاج، وصلاح الدين، والمسيح، وسيزيف.. إلخ، مستمدا منها دعمها وسندها مما أشعره بالتفاؤل والمناعة. يقول:
إني أرى يا سيدي
باب الرجاء قد انجلى
وأصون دوحة أحرفي عشقا لنورٍ يرتجى. (17)
بعد هذا التفاؤل الحذر سوف يعلن الشاعر عن رفضه لكل مظاهر الزيف والمغالطة كما حدده موقفه من ثورة الربيع العربي. يقول:
أحلامك تسقط في الإسفلت البارد بعد ربيع لم يُربع. (18)
لا لست أطيق ربيعا موبوءا
وخريفا موبوءا. (19)
ليتزامن هذا الموقف مع موقفه من “ناصر” و”سيزيف ” وغيرهما من رواد الأسطورة، بإعلانه جهارا عن فشل رحلة الحياة:
لا شيء تغير يا سيزيف
وتاهت في بحر الظلمات. (02)
****
آه يا ناصر أسقط منكسرا
أتشظى في النهرين، وفي بغداد وألعن أحلامي
أتمرد في صمت. (21)
لقد كان من نتائج ومخلفات الليل أن تضع حدا لكل الأماني، وتحول دون تحقيق رغبات الشاعر كما يبدو في قوله:
حلمي تبدد في الهباء
حلمي أنا صفحاته وطن يمزق في العراء
ويموت في الليل المدجج بالهَراء. (22)
خاتمة:
وتبقى الإشارة، في نهاية هذه المقاربة، إلى أن ديوان “تراتيل الجمار الخابية”، يعد قيمة مضافة في مسار الشعر العربي، وحلقة مهمة من حلقاته، لما يميزه من لغة شاعرية، مسكوكة ومنتقاة بعناية فائقة، وطروحات فكرية صيغت بأسلوب جمالي باذخ، أسست جميعها لصداميةٍ في الكتابة بين عنف اللغة ولغة العنف. وإن شئنا، بين لغة الأعماق ولغة الآفاق، تطبعهما كثير من مظاهر القلق والممانعة. هذه التوصيفات وغيرها تذكرنا بتجربة رواد الشعر الحديث من أمثال بدر شاكر السياب، وعبد الوهاب البياتي، وأحمد مطر وغيرهم ممن تحملوا، في شعرهم، عبء رسالة التثوير والتغيير.
هوامش:
1 – سورة النبأ. آيتان: 10-11
2 – سورة ياسين: آية: 37
3 – ديوان: كائنات مملكة الليل. ص:251
4 – الديوان. ص: 5
5 – الديوان. ص:5
6 – الديوان. ص:
7 – الديوان. ص 38
8 – الديوان. ص 47
9 – الديوان. ص 48
10 –الديوان. ص4
11 – الديوان. ص 46
12 – الديوان. ص 100
13 – الديوان ص 20-21-22
14 – الديوان. ص 20
15 – الديوان. ص 34
16 – الديوان. ص 34
17 – الديوان. ص 35
18 – الديوان. ص 11
19 – الديوان. ص 14
20 – الديوان. ص 20
21 – الديوان. ص 77
22 – الديوان. ص92
> بقلم: عمرو كناوي