أجنحة لا يراها أحد

ليس من السهل أن يُحافظ الإنسان على توازنه في عالمٍ تميل كفّته دائمًا نحو الواقعية الجافة. كيف له أن يُقيم داخل ذاته جسراً ممتداً بين صرامة الواقع، بكل قوانينه الصلبة، وخفة الخيال، بكل نداءاته الحريرية؟

الواقعُ قيدٌ، نظامٌ صارم لا يعترف بالرغبات المؤجلة ولا بالقلوب المكسورة، لا يُمهلنا لنحلم، ولا يمنحنا فرصةً لأن نغفو قليلاً فوق سُحُبٍ وُلدت من أمانينا الصغيرة. أما الخيال، فجنةٌ داخلية، لا يطأها إلا من امتلك الشجاعة للهروب من صلابة الوجود، وأدرك أن النجاة الحقيقية لا تكون إلا عبر الإنصات لصوتٍ داخليٍّ لا يخضع لمنطق العالم.

إنه الصراع الأزلي بين الرأس والقلب، بين الضجيج الخارجي والصمت الباطني. حين يُقال لنا: “كن واقعياً”، كأنهم يقولون: “اكتم أنفاسك، وامضِ”. لكننا نولد بخيوط خيال مغروسة في دمنا، نولد ونحن نحمل بذور أحلامٍ لا تنبت في أرض الواقع، بل في أراضٍ لا مرئية، لا يقطنها سوى الشعراء، والفنانين، والعشاق الذين اختاروا أن يحترقوا من الداخل كي لا يموتوا خارجيًا.

الخيال ليس نقيض الواقع فقط، بل هو مقاومة ناعمة ضد قسوته. هو نَفَسٌ مخملي نسرقه من الزمان كلما خنقنا المنطق. هو الفتحة السرية التي نطل منها على أنفسنا الحقيقية، تلك التي لا تُرى في زحمة الحياة اليومية.

نحن نعيش واقعيين في النهار، نُجالس الحياة كأننا منها، لكننا في الليل، حين يخفت الضجيج، نُطلق أرواحنا كالحمام في فضاءٍ لا تحده جدران. نهرّب أفكارنا على قوارب من الورق، نحملها إلى شواطئ لا خرائط لها، نعيد رسم أنفسنا بعيدًا عن العيون، نكتب ما لا نقول، نحبّ من لا يمكن أن نقترب منهم، ونبكي دون أن يُسمع صوت الانهيار.

ولأننا خُلقنا على هيئة تناقض، نحمل في صدورنا قلبًا يشتهي الخيال، وعقلاً يُجبرنا على تقبّل الواقع، نظل ممزقين بين صرخة الطين وصمت الغيم. وكلما حاولنا الانصهار في قوالب المجتمع الصلبة، كلما ازددنا توقًا للهروب نحو ألوان لا توجد إلا في الداخل، نحو موسيقى لا يسمعها سوانا، نحو عالمٍ نكتبه بالحبر الخفيّ على أوراق أحلامنا.

حتى أولئك الذين يصفون أنفسهم بالواقعيين الصرف، هم في الحقيقة أكثر من يتسللون ليلًا إلى حضن الخيال. يتعاطونه في صمت، كمن يُداوي جرحًا لا يراه أحد، كمن يُطعِم قلبه شيئًا من الضوء كي لا ينطفئ تمامًا. فالخيال ليس ترفًا، بل ضرورة نفسية، هو الهواء حين تختنق الأرواح، والماء حين تجفّ ينابيع الفرح.

نحن لا نهرب حين نحلم، بل نُكمل ما لم نستطع عيشه في وضح الحياة. نكتب القصائد لأنها الأكسجين الوحيد حين تُغلق النوافذ، نرسم لأن العالم الحقيقي لا يسع ألواننا، نغني لأن في أصواتنا وجعًا لا يُفهم بل يُشعر.

الواقع طريقٌ واحد، مستقيمٌ وبارد، أما الخيال، فطرقات ملتوية، حدوده ضبابية، لكنه أكثر صدقًا، وأقرب إلى جوهر الإنسان.

نحن أولادُ الخفاء، نحملُ أجنحة لا تراها العيون، لكننا نُحلّق كلّ ليلة، بعيدًا عن جاذبية الأرض الثقيلة، عن القيود التي لا تُرى لكنها تثقل الروح كأنها جبال.

نُحلّق في لحظة شرودٍ داخل مقهى صاخب، في دمعةٍ تسقط ونحن نحدّق في لا شيء، في ابتسامةٍ نرسمها ونحن نموت من الداخل.

نُحلّق حين نكتب، حين نحلم، حين نغفو تحت ضوء خافتٍ في آخر الليل ونسرق من الزمن لحظة دفء.

لقد خدعونا حين قالوا إن الخيال وهم.

الخيال ليس وهماً، إنه الوجه الآخر للحقيقة، الحقيقة التي لم تُتح لها فرصة الظهور في هذا العالم المادي الصارم.

هو الحقيقة التي نخفيها كي لا تُجرح، لأن هذا العالم لا يرحم من يحلم.

كلنا نحمل عالماً موازيًا في داخلنا، لا أحد يعرف طرقاته، ولا يَسمع صدى ضحكاته ولا أنينه. عالمٌ نختبئ فيه حين يضيق بنا هذا الوجود، حين تضغطنا اللحظة وتخنقنا التفاصيل، حين نصبح أكثر واقعيةً مما نحتمل، نهرب لنكون أكثر صدقًا، لا أكثر ضعفًا.

هل رأيتَ وجه طفلٍ وهو يسرح بخياله بعيدًا عن ضجيج الكبار؟

ذلك هو الإنسان في أنقاه.

ذلك هو الإنسان حين لا يُراقب، حين يُشبه نفسه فقط، لا نسخته التي يُطلب منه أن يكونها.

حتى في أقسى لحظات الواقع، حين تنغلق الأبواب، يُفتح باب داخلي صغير، لا يُرى، نطلّ منه على حقلٍ من الضوء، على نغمةٍ قديمةٍ عرفناها قبل أن نُولَد. ذلك الباب، هو الخيال.

وذاك الضوء، هو نحن، حين نسمح لأنفسنا بأن نكون.

الأجنحة التي لا يراها أحد، لا تعني أنها لا توجد.

هي فقط تنبُت من الداخل، تطول كلّما آمنّا بنا، كلّما كتبنا، حلمنا، تمنّينا.

ونحن، كلما استطعنا التمسّك بشيء من خيالنا، كلما كنّا أحياء.

بقلم: هند بومديان

Top