عندما يهمس الليل بالوجع

الليلُ كائنٌ أبكَم وأصَم، لا يسمعُ صرخاتِنا الصامتة، ولا يجيبُ عن أسئلتِنا العقيمة. يُطبقُ علينا كغيمةٍ كثيفةٍ من السكون، يملأُ الفراغاتِ حولَنا، ويملأُ الفراغاتِ فينا. يمررُ أناملهُ الباردةَ على نوافذِ الروحِ المغلقة، يتسللُ إلى زوايا الذاكرةِ كما يتسللُ الحنينُ إلى قلبٍ مُتعَب.
في كلِّ ليلةٍ، تتَهامَسُ الجدرانُ عن خيباتِنا المتسلسلة، عن جرائمِ القدرِ المحبوكةِ بخيوطٍ من المصادفاتِ والخذلان، عن تلكَ اللحظاتِ التي اعتقدنا أنَّها نجاةٌ فاكتشفنا أنَّها فخاخٌ خفيَّة. تُنصتُ الجدرانُ لصمتِنا الذي يصرخُ دونَ صوت، لآهاتٍ تسكنُ ما بينَ النَّفسِ والنَّفس، تُحصي الدموعَ التي لم تجدْ طريقَها للنزول، وتنسجُ قصصًا حزينة، قصصًا صامتةً جدًا، لكنها تعجُّ بالضجيجِ في دواخلِنا.
نُحاولُ أن نُطفِئ الذكرى، لكنَّها تتوهَّجُ أكثر، كجمرةٍ في كفِّ المساء، كندبةٍ ترفضُ الانطفاء. نَعصِرُ الماضي كليمونةٍ يتيمة، ونشرَبُ الذكرياتِ السامَّةَ كنَبيذٍ حارق، تَجري في العروقِ كتيارٍ من الحنينِ المُؤلم، تُسكرُ القلبَ بخدرِ الفقد، فلا نستفيقُ إلَّا على صوتِ الغدِّ وهو يتلصَّصُ علينا من النافذةِ الوحيدة، من خلفِ ستارِ المجهول، يطلُّ علينا برؤوسِهِ الألف، يترصَّدُ ارتجافاتِنا، يُراقبُ خُطانا المُتردِّدة بينَ الخَوفِ والأمل.
نهربُ بتفكيرِنا بعيدًا، نركضُ إلى الخيالِ الفسيح، حيث لا ماضٍ يطاردُنا، ولا واقعٌ يُمسِكُ بأقدامِنا. نتنفَّسُ الأحلامَ من خُرمِ إبرة، نحاولُ أن نصنعَ منها أجنحةً تُحلِّقُ بنا بعيدًا عن حقلِ الخيبات، لكنَّ الهواءَ مثقلٌ بالخذلان، والجاذبيةُ تُصرُّ على إعادتِنا إلى الأرضِ ذاتِها، إلى الليالي ذاتِها، إلى الذكرى التي لا تموت.
تتصاعدُ دعواتُنا كفراشاتٍ ناعمة، ترفرفُ نحوَ السماء، تُلامسُ الغيومَ بخفَّة، تتفاوضُ مع القدرِ في صمتٍ مُتوسِّل، تنتظرُ منهُ صفقةً عادلة، تنتظرُ أن يعودَ بها مُحمَّلةً بالأمنياتِ البعيدة، تلكَ التي ظلَّت مُعلَّقةً بينَ الرجاءِ والنسيان. لكنَّ القدرَ عنيد، والسماءُ بعيدة، والليلُ طويلٌ، أطولُ من النَّفس، أطولُ من الحُلم، أطولُ من وجعِ الانتظار.
فالليلُ مرآةٌ عمياء، يَعكِسُ أرواحَنا دون أن يُبصِرَها، يَبتَلعُ نَبضاتِ القَلبِ الخافِقةِ كما تَبتَلِعُ الظُلُماتُ قَطرَةَ نور، ويَترُكُنا مُعلَّقين بينَ الحُلمِ والحقيقة، بينَ الخَوفِ والتَّوق. نَتَدلّى كأرجوحةٍ مُنهَكةٍ بينَ ماضٍ لا يَعودُ ومُستَقبلٍ لا يَصِل.
تَتَشابَكُ أفكارُنا كما يَتَشابَكُ الضَّبابُ بأغصانِ الشَّجر، يَلفُّنا بأسئِلةٍ تُثقِلُ أجنِحةَ الرُّوح: هل كُنا خَطأً في نَظرِ العالَم، أم أنَّ العالَمَ كانَ خَطأً في نَظرِنا؟ هل المَسافَةُ التي نَبتَعِدُ بها عن الألَمِ حَقيقيَّة، أم أنَّهُ يُقيمُ فينا، يُقيمُ في ظِلِّنا المُنطَفِئ، في العَينِ المُنتَظِرة، في يَدٍ مُتَشَبِّثةٍ بِلا شَيء؟
يَتمدَّدُ اللَّيلُ كشِبَاكِ العَنكَبوتِ فوقَ جُرحٍ قَديم، نُحاولُ أن نَخيطَهُ بِخُيوطِ الصَّبر، لكنَّهُ يَتَّسِعُ كلَّما لامَسَتهُ ذِكرى، كلَّما داعَبَتهُ رِياحُ الحَنين. يُقالُ إنَّ الوَقتَ يُضمِّدُ الجِراح، لكن ماذا عن تِلكَ الجِراحِ التي لا يَستَطيعُ الوَقتُ أن يَبلُغَها؟ ماذا عنَ الأرواحِ التي تَسكُنُ عَتَمَةَ الذّاكرةِ كأشباحٍ لا تَشيخ؟
في اللَّيلِ نَحجُ إلى الماضي، نَقفُ عندَ أضرِحةِ الأحلامِ التي دُفِنَت دونَ أن تَرى النّور، نَجمعُ بَقاياها المُبعثَرةَ كأحجِيَةٍ ناقِصة، ونُحاوِلُ أن نَصنَعَ مِنها نافِذةً نَطلُّ مِنها على الغَد. لكن الغَدَ يُراقِبُنا بِتِلكَ العُيونِ الغامِضة، يَنتَظِرُ مِنّا أن نَعبُر، أن نُلقِي أمتِعَةَ الألم، أن نَثِقَ بهِ ولو قليلًا.
فهل نَجرُؤُ على العُبور، أم أنَّنا سَنَبقَى مُخلِّدينَ في هَذا اللَّيل، نَنسُجُ من صَمتِهِ قُصَصًا لا تَنتهي؟
بقلم: هند بومديان
Top