عقد حزب التقدم والاشتراكية الدورة الخامسة للجنته المركزية الأحد الماضي بالرباط، وقدم خلالها الأمين العام للحزب تقريرا سياسيا باسم المكتب السياسي جرت مناقشته من طرف «برلمان الحزب» ثم المصادقة عليه بالإجماع.
لم يكن هذا اللقاء محطة تنظيمية اعتيادية فحسب، ولم يعكس فقط حرص الحزب على احترام مقتضيات أنظمته وقوانينه ومقومات تدبيره التشاركي الديمقراطي، ولكنه كان كذلك، وأساسا، موعدا سياسيا بامتياز، ومثل مناسبة عرض فيها الحزب تحليله وموقفه ورؤاه، وبلور أجوبة على الأسئلة المطروحة في الساحة السياسية الوطنية.
لقد عرف حزب التقدم والاشتراكية، منذ كان، بتدقيق تحاليله ومقارباته، وإنتاج أطروحات سياسية وفكرية وتحليلية محكمة، وهو ما يقر به الدارسون لتاريخ حياتنا السياسية والحزبية الوطنية، وبقي الحزب ينتج بلاغات ومواقف عقب كل اجتماع أسبوعي لمكتبه السياسي، ولم يغير هذا التقليد العريق حتى أثناء فترة الجائحة، ومن ثم تقرير اللجنة المركزية الأخير يندرج ضمن استمرارية هذا التميز، ويواصل الوفاء لهذه الجدية في صياغة الموقف السياسي.
تقرير الأمين العام للحزب أمام اللجنة المركزية حكمه السياق العام في البلاد، وكان بدهيا أن يستحضر مستجدات هذا السياق، وأيضا أن يقرأ، انطلاقا من رؤيته السياسية والفكرية، القضايا التي تثير اليوم نقاشا واسعا وساخنا في بلادنا (الفساد، تنازع المصالح لدى الحكومة الحالية وضعفها التدبيري والسياسي والتواصلي، تدهور القدرة الشرائية لفئات واسعة من شعبنا، اختلالات قطاعات التعليم والصحة والشغل، برامج الدعم… وغير ذلك).
لم يساير الحزب خطاب الشعبوية والمزايدات والسباب والنقد المجاني، ولم يختر النقاش السطحي للقضايا المثارة، ولم يغرق في الالتباس، ولكنه تسلح بمعجم الوضوح المعروف عنه، وأصر على إبراز لغته اليسارية التقدمية الواضحة، واعتمد محددات وركائز منهجه التحليلي العلمي، وذلك لقراءة ما يحياه واقعنا السياسي والاقتصادي والاجتماعي الوطني، ثم طرح اقتراحاته وبديله التقدمي بشأن ذلك.
لقد تضمن تقرير اللجنة المركزية عناوين ومحاور رئيسية وفرعية، وشمل أبرز قضايا الساحة الوطنية اليوم، فضلا عن الأوضاع الإقليمية والدولية، وخلال كل ذلك عرض مقاربات واضحة، علاوة على التحليل والموقف والبديل، وبذلك يعتبر التقرير وثيقة سياسية وتحليلية أساسية يجدر بالمتابعين والمحللين تمعنها وقراءتها باعتبارها إنتاجا اقتراحيا جديا من طرف حزب وطني عريق يزيد عمره عن ثمانية عقود.
يمكن بهذا الصدد التوقف فقط عند موضوع واحد من ضمن عديد مواضيع شملها التقرير، وهو المتعلق بصفقة تحلية مياه البحر وتنازع المصالح لدى الحكومة ورئيسها، لنسجل تميز حزب التقدم والاشتراكية في صياغة موقفه بهذا الشأن، فهو لم يركب موجة المزايدة والنقد المجاني، ولكنه قدم عرضا تحليليا رصينا لما وقع، وطرح العديد من الأسئلة ذات الصلة، وعزز مقاربته بإحالات قانونية ودستورية وأرقام ومعطيات، ولم يغفل المحاذير الأخلاقية والسياسية، وكان بذلك يستحضر صورة البلاد ومصلحتها وتحديات كل السياقات المرتبطة بهذه المصالح الوطنية العليا، ويدين الفضيحة التي وقعت.
وعندما استعرض التقرير مختلف الاختلالات التنموية والاجتماعية، وذكر بالإصلاحات الاقتصادية المطروحة، لم يفته التذكير بارتباط كل هذا بضرورة نفس ديمقراطي عام في البلاد، وأن تستعيد السياسة نبلها ومصداقيتها، وأن يتوقف التوغل والهيمنة، أي التأكيد على الارتباط الجدلي بين الإصلاح الاقتصادي والاجتماعي من جهة والإصلاح السياسي والديمقراطي من جهة أخرى.
وفي هذا، كان الحزب يحرص على مصير البلاد ومستقبلها، وعلى المصلحة العامة وصورة المغرب، وعلى ضرورة نجاح بلادنا في كسب رهانات المستقبل وتحديات التحولات الإقليمية والدولية المتسارعة.
وصلة بذلك أيضا، لم ينس التقرير أدوار الحزب ومسؤوليته الذاتية، وأيضا أدوار ومسؤوليات باقي الأحزاب الجادة والحقيقية، وأدوار النقابات ومنظمات المجتمع المدني والمثقفين والمفكرين ووسائل الإعلام، داعيا الكل إلى الانخراط في الشأن العمومي، وتحمل المسؤولية لصيانة وحدة بلادنا واستقرارها وانفتاحها وتعدديتها، وللعمل من أجل تحقيق الإصلاحات التنموية والاقتصادية والاجتماعية والديمقراطية.
<محتات الرقاص