إلى تلك الصلبة أنا…
التي وجدت نفسها مرساة سفينة ضلت طريقها.. واحتضنتها الأمواج العارمة بقسوة فآثرت أن تنزل أشرعتها وتبحر عكس تيار الكسر بلا خوف أو تردد.
أتوّعد الليل بالكتابة، بالثأر بالانتشار داخل أقبية الأفكار التي لا تستيقظ إلا في العتمة، أتورط داخل حكاياتها وأتّقد بوحشة الغربة المزدحمة داخلي،
بداخلي إغراء قلق وثورة، بداخلي شرارة تتسع باتجاه قلبي كلما اقتربت من اللحظات الناسفة يغتالني الغياب ويطعنني المجاز.
أمارس الغرق في قناديل الشوق وأخاصر رمش الضوء وأذهب بعيدا بعيدا، حيث أثر القبلات على وجنة الزمان وهزّات العناق لكل أحلامي الراحلة، حيث خارطة الذكريات غير قابلة للسهو .
ليتني أستطيع قرع ذاك الباب.. وفتحه..
فتدخل معي ملامحي تلك..
وكل الذكريات التي تنام في جعبة عمري.. أسلم على السروة.. وأطعم العصافير كما كنت أفعل..
فتسألني اليمامة أين كل هذا الغياب؟
شيء ما هنا في الجوار يبدد الظلام ويحوله إلى قطع موسيقى، يحاكي الفراغ ويعبث بالضجر بملامسة العواصف المكبوتة وينقله إلى ما وراء الخيال ببضع ابتسامات بريئة، إنه الليل يستريح عند تعبي ودوحة الأحاديث والنبوءات غير المألوفة،
عند مشاهد الطفولة والذكريات السميحة، يتوقف طويلا عند ناصية الأشياء القديمة والمواجع التي ترفض مغادرتي
ويتنهد كثيرا، كثيرا
إنها نوستالجيا صريحة تغربل تجاعيد الخيبات السميكة التي رافقتني بعناية نحو حياة جديدة، حياة أفقدتني رغبة مطاردة الأشياء التي أحبها، أفقدتني الانتماء إلى الجمال، إلى الفن إلى السفر والتحليق بعيدا
إنه الليل ينزل إلى قبو الذاكرة ويتوسد الهزيمة تلو الهزيمة
يفكك أزرار الأحلام، يعبث بتقاسيم السكينة ويباغت النجوم المحتشدة في صدر السماء ليرسم وجهي وملامحي الشريدة
يذرف نوايا الدموع في طرق مكشوفة ويمشي داخل فيافي الوحشة المصبوغة بحزني، حزني الذي شرب الفجر منه وظل ظامئاً
يهاجر من جيب أساي إلى ضيق صدري يبحث عن الطمأنينة، لكن دروبه غريبة ومقاصد نزوله ضليلة.
يٌكيدني هذا الليل باستمرار، ليل مأهول بالقصص المبتورة، عامر بالصخب والنغرات المفضوحة لا يكّف عن ارتكاب الخطيئة، لا يتوقف عن تذكيري بهزيمتي النكراء الأخيرة،
يوافيني بدركات الجروح وأعطاب الفجائع
ويصرخ هنا داخل رأسي، يصرخ بصوت مرتفع يُصيبني بالتّصدع
يدخن أفكاري الملطخة بالحيرة ويستحوذ عليّ گوني امرأة ناقمة توقظ شهوة الأسى في ساعة متأخرة
إنه يتآمر على مكاسبي كعدو غاشم …
أنقدوني من هذا الليل إنه يجترني، ينهشني بفاهٍ فاغر، إنه يؤذي قلبي الذي بات يسافر وحيدا
صدقوني لا شيء يرهق المرء أكثر من مشاعر الليل التي ظلت محبوسة..
أرهقتَني أيها الليل، إنك كثير.. كثير جدا على امرأة مثلي .
وما بين ذكرى وحنين تقتات القوافي على بوح الهمس، فتسرقنا من حضن اللحظة عبرات تاه فيها النفس..
ليتنا سنونوات تغفو على لهفة، وتستيقظ على غناء الشمس..
وليت هاتيك الأماكن ما هرمت، فعيون القلب غائرة
لم تأخذها سنة منذ الأمس..
ثم ماذا؟
ثم إنّي أتصرف وكأنّ لا شيء يعنيني لا شيء يؤذيني، لا محطات هناك تنتظرني ولا فواصل تستوقفني وكأنّ الحياة تلفظني خارج أسوار هذا الكون الهالك ..
وكأنّ عينايّ الحيارى لا تتوق لنسف شهقة السؤال الذي ظل متعربدا داخل رأسي طويلاً
كأنني عابرة أتسكع داخل مساحة العدم، لا شيء يخدش ذاكرتي لا صور لا أحاديث لا أصوات تسافر بي إلى أمس،
أمس فقدُته قبل أن أعيشه، فقدني قبل أن يجدني، ثم كالعنقاء أعود إلى السماء أجاور الفراشات والعنادل وأطوّق بأجنحتي الآفاق،
أرشق تفاصيل الصباح بالأغنيات وأمتطي بنشوةٍ شامات القصائد وأعناق السنابل وأذرع الكلمات
لم أعد أنتظر الحياة أن تأتيني، قررت أن أركض إليها بكل هذا الشتات الذي يعبرني، أن أجيئها وأمتص من رحيق ضوئها و ظلامها،
من وميض ابتسامتها من وجع تناهيدها، أن أخّل بنظامها القاسي، وأعبث بقواعدها الجائرة
أن أختلس من أفراحها وأحزانها، أفسّر سخاءها وقحطها، أدنو من فيض تفاصيلها،
كم نحتاج لمساحات تستوعب العتاب، وكم تعترينا الشفقة على نبض تاه على أعتاب اللقاء ..
ليت الدنيا گ وجه الصبى لا تغادره الابتسامة،
أو ليتها گ كفه تترك في راحتك عذارى الخزامى
بعد السلام ..
ليت اللحظات تقبضة على عطر الأنفاس، وليت القلوب تنبض نفلاً، وياسميناً رغم الخصام ..
مرات كثيرة رفعت يديّ للسماء ودعوتُ بترتيب هذا الخراب، بوقع المشاعر المِصيدة التي تداهمني حين أفكر،
دعوتُ باستراحة قصيرة أبرئ فيها قلبي من ذمة عشق لا زال يتنهد داخل صدري لكن كل شيء كان يعود إلي مشتعلاً بالضياع .
ل يحدث أن يكون طوق نجاتي ذكرى، رصاصة طائشة أصابتني في العمق، كلمة واحدة جعلتني أتسأل أهكذا تكون الهزائم ؟
صباّبة، لوعة ومواعيد لا تأتي !
عجز قاتم وصمت يؤكد الوحدة الكثيرة التي أهرب منها !
عيشوا اللحظات بكل تفاصيلها، قبل أن تهرم وتصبح ذكريات.. فلا يوجد أخف من يد الزمن
وهو يسرق العمر القادم.
والذي فات ..
كان لا بد أن تموت بداخلي أجزاء، ومن حياتي مراحل ومن محيطي علاقات لتولد مرة أخرى، بشكل مستحدث يشبه نسختي الجديدة الموت الصغير إيذان على بدأ حياة قريبة ذات معنى …
خالية تماما من أشخاص ووعود كتبت وأصبحت ذات عهد، أقسم على الوفاء بها في لحظات الفرح….
دون الالتفات للحقيقة القادمة دون فهم أو وعي لواقع مر لكن كل الخير فيه، ولعله القادم أفضل …
تائهةٌ كسفينةٍ وحيدةٍ في غِمارِ الضَباب، أسعى لأتَسَلَّقَ العدَم،
لأرتَقي فوقَ مُستَوى الشُبُهات والأسئلة.
أحاولُ أن أكشِطَ الغِشاوةَ من عَينَي، أحاولُ بمُفرَدي، أحاولُ وحَسب.
ف أنا مرهقة من أشياء لا أفهمها .
وكأنّنا نحمل فوق أرواحنا أثقالًا لا مرئية، تثقل خطواتنا وتمنعنا من التنفس بـ حُرّية .
أرهقنا التفكير في كل التفاصيل، الكبيرة منها والصغيرة، حتى باتت عقولنا ساحة معركة لا تهدأ .
فارقتنا الراحة منذ زمن، وغابت عنّا ملامح الطمأنينة، و كل شيء أختلط علينا …
لا ندرى أين المفر ولا نعلم كيف نستعيد ما فقدناه من سكينة ؟
أحتاج إلى هُدنة مع نفسي …
أن أتوقف عن مُلاحقة الماضى وعن القلق من المستقبل .
أن أعيش لحظة واحدة بلا خوف أو تفكير .
مُتعبة من صخب عقلي وضجيج قلبي، من آمالي التي تتكسر. من أشخاص كُـنا نظنهم الأمان فصاروا الغياب .
أحاول التعايش مع خسائري، أحاول أن أعتاد على ألا شيء يدوم. لكن في داخلي مثقلة، كأنني أغرق في بحرٍ بلا شواطئ .
أنتظر بصيص أمل ربما يأتي وربما … !!
” أمتنان دائم لكُل شيء “
مُمتَنّة جدًا للطّرُق وللأَحداث ولكُلّ الانتكاسات التي حصلت لي فظنَنتها نهاية العالم، مُمتَنة لكُلّ الأشياء التي خالَفَت رَغباتَي ولكُلّ مُخطّطاتِي التي فشِلت وأحلامي التي تساقَطَت مِني، مُمتنة لانطفاء وهج بعض الأشياء في عيني لأنّ انطفائها لم يضئ شيئًا بديلًا وحَسب بل أضاءَ كُلّي …
مُمتنة جدًا لكُلّ الدروب التي لم تكتَمِل لأنّها جعلتني أزهِر في مكانٍ آخر، مكانٍ يُشبهُني يعرِفُني ويألفُني كُلي.
لا أملك رفاهية القرار أو حتى الاختيار..
اخترت أن أقود معاركي دون استسلام.. وقد بترت منها كل مشاعر السعادة والأمل فالأمانة التي أحملها كانت أعمق من طلبي لأعيش معنى الحياة .
ف أنا امرأة أجادت كل أدوارها بصمت وسكون ..
ونسي الجميع حقها بأن تعيش بسلام..
كانت تغرق هي بصمت.. ويصمت الخوف في روحها.. وضجيج الألم
ف إلى تلك الصلبة
ألف تحية.. حتى يأتي الجبر.. وتهدأ أمواج الابتلاءات العارمة.. ويسود السلام قلبا ما عرف سلاما ولا استسلام.
هند بومدين