عبد العزيز بنزاكور كما عرفته

عن قصد جردت الفقيد من كل وسم وصفة يتسم ويوصف بهما، فالرجل واسمه هما تلك السمات والأوصاف التي لا يكتسبها إلا العظماء وقليل ما هم.
استفزني تأبين حزب التقدم والاشتراكية للفقيد الكبير، والذي كان بودي الحضور إليه لو علمت بموعده حتى وإن كانت وضعيتي الصحية لا تسمح بذلك.
رجعت بي الذاكرة إلى زوال يوم7/1/2004 حيث حظيت فيه مع بقية أعضاء هيئة الإنصاف والمصالحة باستقبال جلالة الملك وتعيينه لنا كأعضاء بتلك الهيئة.
منذ تلك اللحظة شدت انتباهي شخصية الرجل، حتى كأن خيطا قويا ربط في ما بيننا، وتستمر الأيام والأشهر والسنوات على تدانينا في الهيئة ويستمر ذلك الإعجاب والتقدير للرجل، ويأبى إلا أن يزيد ذلك رسوخا في الداخل والوجدان حتى وإن حل التنائي مكان ذلك التداني بعد انتهاء أشغال الهيئة حيث أصبحنا لا نلتقي إلا لِماما.
لن أكرر ما قيل في حق الفقيد، وما هو معروف عنه من شجاعة سياسية نادرة ودفاع مستميت عن المقهورين والمظلومين والمستضعفين، لا ولا ما قيل عن مكانته العلمية والنضالية والحقوقية، بل سأكتفي بالإشارة إلى ومضات قليلة من شخصية الرجل كنت عليها شاهدا ونحن معا في هيئة الإنصاف والمصالحة.
آثار انتباهي منذ الوهلة الأولى محافظة الرجل على هيبة، ووقار، ورزانة المحامي، حتى وهو بعيد عن المهمة وميدانها.
أتذكر جيدا ونحن في بداية تعارفنا، حينما نكون في أوقات استراحة بعد ساعات طوال من النقاش الصاخب والعمل المضني أن بعضنا يلجأ إلى خفشات ومستملحات نتشاركها معه قصد التخفيف مما نعاني منه من تعب ووعثاء. لكن حينما يقترب بعضنا من الخطوط الحمراء، نرى الرجل يلوذ بالصمت، وأحيانا يبدي في كثير احترام امتعاضه من ذلك وكنت أشاطره الموقف. قال أحدهم ذات مرة: القضاة والمحامون هما وجهان لعملة واحدة، قلت بداهة معلقا على ذلك: إنها عملة الاحترام والتقدير والتقاليد الحميدة والأعراف النبيلة التي تلقيناها من أسلافنا العظماء رجال القضاء والمحاماة، وأردفت قائلا، أتذكر وأنا أتلمس خطواتي الأولى في المهنة بداية السبعينيات، تلك الهامات الكبيرة والجبال السامقة في مجال المحاماة، وهي تقف لي إجلالا وتقديرا، وتحيطني بمنتهى الوقار والاحترام، وها أنا ذا الآن في هذه السن وأنا رئيسا أول لمحكمة الاستئناف أقوم بنفس الشيء مع أي شاب محامي ولج مكتبي بعد أدائه مباشرة اليمين. إنه احترام لقدسية ومهابة وجلال البذلتين. استحسن الراحل ذلك، وقام بشرحه بإسهاب. ما أثار انتباهي كذلك في شخصية الفقيد أناقته الدالة على هيبته ورزانته ووقاره، وهي صفة بقيت لاصقة به حتى نهاية عملنا بالهيئة، ما لاحظت قط أن الرجل فارق بذلته الأنيقة وربطة عنقه الراقية وعطره الفواح.
أشاطر الرأي السيد الأمين العام لحزب التقدم والاشتراكية الأستاذ محمد نبيل بنعبدالله حين قال: إن الفقيد كان يفضل الاشتغال بعيدا عن الأضواء. ما قام به الفقيد أثناء عضويته بالهيئة كثير ولكن في صمت ونكران ذات، لم يكن من الذين يتهافتون على وسائل التواصل والإعلام قصد تلميع صورهم على حساب بقية الأعضاء، ولا كانت له -على حد علمي-علاقات مع بعضهم يمرر من خلالها ما يخدم مصلحته وسمعته، بل كان همه هو الدفاع عن حقوق الضحايا، والسير بالمركب نحو شاطئ الأمان، أما الميكروفون والكاميرات، فهناك من يتهافت عليهما بكل ما أوتي من قوة وبشتى الوسائل. يتعفف الرجل عن اقتراح تغيير وجبة ما، أو استبدال مطعم بآخر، حتى وإن كانت حالته الصحية لا تسعفه على أكل وجبة معينة، كان همه الوحيد هو القيام بما كلف به. كانت لمداخلاته الرزينة، الكيسة، والهادفة، ولتحليلاته الجادة في المجالين القانوني والحقوقي، المليئة بالدروس والعبر والحكم، الأثر الكبير في ما وصلنا إليه.
لقد كان السيد وزير العدل الأستاذ عبد اللطيف وهبي محقا حين وصف الفقيد بالتواضع ونكران الذات. لقد كان حقا مثالا يحتذى في ذلك، لم نسمع الرجل يتبجح يوما ما بماضيه الحفيل والحافل بالعطاء، وما أسداه للساحة الحقوقية والقانونية والسياسية، مما يشرف أسرتيه الصغيرة والكبيرة ووطنه فهذه خصلة من خصال العظماء الذين يجود بهم الزمان بين الفينة والأخرى. كثيرا ما كان يحلو لي القول له: يصدق فيك قول الشاعر:
ملأى السنابل تنحني بتواضع
والفارغات رؤوسهن شوامخ
تذكرت من خلال الرجل هامات كبيرة، وجبال سامقة وشامخة من مناضلي حزب التقدم والاشتراكية كان لي شرف معرفة ومجالسة بعضهم. أعترف شخصيا أنني وأنا في مهنتي القضائية كنت يساري الفكر والهوى، كَلِفاً بالفكر اليساري شغوفا به وبرجالاته الأفذاذ، متيما بهامات كبيرة منهم، ولكن دون التأثير على مهنتي أو ما يجب أن أتحلى به من نزاهة.
لدي علاقات كثيرة مع عظماء منهم أعتز بها أيما اعتزاز وفي طليعة القبيلة الفقيد العظيم عبد الرحمان اليوسفي.
علاقتي المباشرة مع عظماء حزب التقدم والاشتراكية كانت محدودة إن لم تكن منعدمة، ولكن للحقيقة أقول :
إن القوم (يستوي في ذلك مناضلوا ومناضلات الحزب) فيهم من تواضع العظماء ونكران ذات الشامخين والوفاء للعهود ما يحق لحزبهم أن يفتخر به ويتباهى مدى الدهر والأحقاب .
يذكرني دفاع الفقيد المستميت عن قضيتنا الأولى وساكنة تلك الأقاليم خاصة في إطار جبر الضرر، ومعرفته العميقة والدقيقة بجزئياتها وكلياتها بمقولة العظيم الفقيد علي يعتة: الصحراء ليست نكرة. إن كان الفقيد صاحب المقولة كرس حياته لقضية الوحدة الوطنية التي دافع عنها بقوة في جميع المحافل الوطنية والدولية، رافعا شعاره الخالد: ((إن الوطن يأتي قبل الصراع الطبقي)). وإن كانت هي شغله الشاغل من خلال ماقام به وأنجز من دراسات تتجلى أساسا في ما كتبه ونشره سنة 1961 تحت عنوان: (صحراؤنا المغربية)، وما كتبه كذلك بالفرنسية سنة 1973 تحت عنوان (الصحراء الغربية المغربية) فإن خلفه الذين منهم هذا العظيم المحتفى بتأبينه، صاروا على الدرب، رافعين علم العظمة والشموخ والإباء، والدفاع عن المبادئ في كثير تواضع ونكران ذات….
هي مبادئ عرفتها من خلال ما قرأته عن العظيم علي يعته، وما لاحظته وأنا بالكاد أتجاوز ربيعي الثاني، حيث كنت أصحب جدي الشيخ محمد الإمام إلى منزل آل الصبيحي بسلا فأجد به بصحبة من به رجلا ذو أخلاق عالية، تعلو وجهه الجدية والاستقامة.
كلامه قليل، ولكنه هادف وعميق تتضح من خلاله مكانة الرجل السياسية والثقافية والموسوعية، وهو لا يزال حينئذ في طور الشباب، ومع ذلك يحظى من طرف من هم أكبر منه سنا بكثير تقدير واحترام وإعجاب، إنه العظيم مولاي إسماعيل العلوي، الذي جالسته بعد ذلك بأكثر من ثلاثين سنة في إطار مهمتي بهيئة الإنصاف والمصالحة، فوجدته كما كان عليه.
قدر لي وأنا على رأس محكمة الاستئناف بالعيون أن أستضيف مرارا معلمة أخرى من معالم هذا الحزب، حيث أجد فيه من خصال بني قبيلته وأخلاقهم وجديتهم… ما يجعلهم متفردين على من سواهم. ويبقى. الرجل على ما كان عليه وهو وزير حيث جالسته في المكتب والمنزل إنه الفقيد خالد الناصري.
جالست كذلك الأمين العام الحالي للحزب الأستاذ محمد نبيل بنعبدالله الذي لا يختلف عن سلفه في تلك الصفات التي وسمت قادة هذا الحزب الذين يضيق المقام عن ذكرهم، مناضلين ومناضلات يتزين بهم الحزب ويتجمل. والخلاصة أنني بقدر ما أقف وقفة تقدير وإكبار وإجلال لقادة هذا الحزب، لما هم موسومون به من خصال السياسيين الملتزمين وتواضع المناضلين العظماء، وأخلاق المثقفين الكبار، الذين لا يساوِمون بمبادئهم ولا يساوَمون عليها. بقدر ما أعترف للقوم بأن هذه الصفات التي تتساوق فيهم كأنها فرسا رهان وتتعايش في طبائعهم، لا تنفي أحداهن الأخرى هن اللواتي صنعن من هذا الحزب العظيم معلمة بارزة وشامخة في المشهد السياسي والحزبي والفكري في المغرب قديمه وحديثه.
فليرحم الله الفقيد عبد العزيز بنزاكور، ويلهم أسرته الصغرى الصبر والسلوان، وكذلك أسرته الكبرى حزب التقدم والاشتراكية، الحزب العتيد حقا برجالاته الأفذاذ ونسائه العظيمات الذين تتساوى فيهم خصال النضال والتواضع والأخلاق والمعرفة…، وتتجاور في مشهد قل نظيره.
“إنا لله وإنا إليه راجعون”

بقلم: ماءالعينين ماء العينين
عضو سابق بهيئة الإنصاف والمصالحة

Top