الفيلم الوثائقي «بنات ألفة» .. عنف الواقع، عنف التطرف

أعادت المخرجة التونسية كوثر بن هنية، من خلال فيلم وثائقي يحمل عنوان: «بنات ألفة» (110 دقيقة)، كتابة القصة الشهيرة لالتحاق غفران ورحمة بتنظيم الدولة الإسلامية (داعش)، سنة 2016، مقتحمة حميمية الأم ألفة (الممثلة هند صبري)، وطفلتيها آية وتيسير، اللائي حكين بتحسر تفاصيل مأساة التحاق الأختين بالجماعة المتطرفة.
لم يكن انضمام غفران ورحمة لـ»داعش»، من باب الصدفة، بل هو نتيجة لعدة معطيات تاريخية ترتبط بماضي الأسرة والمحيط الاجتماعي العنيفن واضطراب السياق السياسي بتونس الذي أرخى بظلاله على أوضاع العائلات، بفعل تدهور الأوضاع الأمنية وبروز التيار التقليدي المحافظ بقوة عقب أحداث الربيع العربي.
لقد صور الفيلم (إنتاج سنة 2023)، انطلاقا من ذاكرة الأسرة، كيف أن ألفة كانت ضحية للواقع وناضلت منذ صغرها في الحياة، عبر تحملها المسؤولية، بداية، بتخليها عن أنوثتها لحماية والدتها، ثم فيما بعد تكفلها ببناتها عقب طلاقها من زوجها الأول والثاني، حيث اضطرت إلى السفر لليبيا تأمينا لمصاريف عيش طفلاتها.
ظلت ألفة مراقبة، بصرامتها المعهودة، التي كانت تصل حد الجلد بسلطتها المطلقة، تحركات بناتها لحمايتهن من الانحراف والاعتداءات الجنسية، بل كانت رافضة لأي علاقة حميمية لفلذات كبدها خارج إطار الزواج، حرصا على العيش بشرف في المجتمع التونسي الذي تهيمن عليه الثقافة الذكورية خصوصا في الأوساط الشعبية.
توالي السنوات، يعني بالنسبة لألفة، زيادة المسؤولية في السهر على شؤون بناتها، اللائي يتطلعن للعيش في ظروف اجتماعية أحسن، ولحرية اختياراتهن في الموسيقى واللباس وغيرهما.. غير أن الأحكام الاجتماعية لساكنة الحي التي ظلت تلاحق بناتها، ستؤدي إلى ثورة الأم في وجه كبيرات البنات، غفران، وتحديدا بعد الاتصال الذي تلقته من إحدى الجارات وهي بليبيا، تخبرها بالانحراف في سلوكها.
وبفعل الفوضى التي حدثت في الشارع التونسي، وانسحاب رجال الأمن، تقلصت حرية المواطنين في الشارع، لا سيما في أحياء الهامش، بفعل سيادة خطاب التكفير، ودعوة النساء إلى الالتزام بتعاليم الدين الإسلامي استنادا إلى ارتداء اللباس الشرعي، إخفاء لزينة الوجه وتفاصيل الجسد.
كانت غفران صيدا ثمينا للجماعات المتطرفة، التي استغلت براءتها الطفولية، وفراغها الأسري ووضعها الاجتماعي والتعليمي، مما جعلها تصدق خطاب شيوخ السلفية الذين اقتحموا الأحياء لاستقطاب عناصر جدد في التنظيم، وهكذا، نزعت لباسها «السافر»، ودعت أخواتها الأخريات للاقتداء بها، تفاديا لعذاب القبر وجهنم، وهو ما شكل تحولا جذريا في مسار الأسرة التي ستدخل في متاهات اللا متوقع..

                                                                                                                   لقطة من الفيلم

نظرا لطبيعة العلاقة الحميمية التي كانت تجمع بين الأخوات الأربع ووالدتهن، نفذ خطاب التطرف بسلاسة لمنزل العائلة، خصوصا وأن الأمر يتعلق بالدين الذي يجب احترام تعالميه للفوز بالجنة، حيث ارتدت باقي البنات لباس «النقاب»، للتكفير عن الخطيئة !، كما أن ألفة سعدت بهذا التحول الجذري في زي بناتها، وكانت ترتديه بين الفينة والأخرى داخل البيت إرضاء لخاطرن، ذلك، أنه لم يكن في حسبانها بأن هذا الاطمئنان المزيف والملغوم سيحول حياتها إلى كابوس، وهو ما حدث بالفعل، عقب الالتحاق المفاجئ لغفران بتنظيم الدولة الإسلامية بليبيا.
دخلت أسرة ألفة في حزن وقلق، جراء ما ألم بها، وما زاد الطين بلة، التحاق رحمة بغفران، بعد عدم التمكن من إنقاذها من التصور التكفيري الذي اعتنقته، مغيرا أسلوب حياتها وتفكيرها.. عندها وجدت الأم والدولة التونسية نفسيهما مهددتان بفقدان آية وتيسير أيضا، وهو ما دفع بالسلطات إلى حماية البنتين الصغيرتين، باستضافتهما في مركز لحماية الطفولة.
رغم التحاق غفران ورحمة بتنظيم داعش، ظل الحنين إلى الأسرة رفيقهما، عبر التواصل المستمر مع والدتهما، ودعوتها إلى رفع أكف الضراعة للخالق ليحفظ حياتهما من الموت، خصوصا بعد تصاعد حدة التوتر في صبراطة الليبية، التي ستعتقلان بها وستسجنان بها لمدة 16 سنة.
ومازال قلب ألفة وآية وتيسير معلقا، في انتظار عودة رحمة وغفران وابنتها إلى أرض الوطن، بعد قضاء عقوبتهما السجنية في ليبيا، علما أن الأسرة تطالب السلطات التونسية بالتدخل لوضع نهاية لهذه القصة التي شهدت متابعة واسعة من الإعلام المحلي والدولي.
يحسب لكوثر بن هنية معالجتها للموضوع سينمائيا، زاوجت فيه بين الواقع والخيال، لقد توفقت تقنيا وجماليا في تقديم فيلم لا هو بالوثائقي ولا بالروائي، فمقابل احترامه عناصر التوثيق، يقدم للجمهور مشاهد درامية من خيال المؤلف، فتارة يدرج شهادات حية عادت بالمتلقي إلى تفاصيل الوقائع، وأخرى يوجه نقدا لاذعا لما هو سائد في الواقع، من خلال الفعل الواعي لخطاب الممثلات.. فالمخرجة، لامست موضوع العمل من مختلف الزوايا والطابوهات، استنادا إلى الحديث عن حرية المرأة، والجسد، والجنس، والاغتصاب الزوجي، وألم التفكك الأسري، وسلطة رجال الدين، وسيادة خطاب التطرف، ناهيك عن ما تسببه تردي الأوضاع السياسية من أزمات داخل المجتمعات.

يوسف الخيدر

Top