في ديسمبر
يصبح قلبي عابراً..
وتمسي القصائد محطات حنين ..
ترى كيف يسعف الحرف الأنين، وكيف للآماكن أن تبوح، وكيف لشجرة الدفلى أن تحتضن بقايا حضور ودمعتين؟
بداخِلي حقا، رغبة شديدة في كتابة شيء يستحق القراءة.
أريد أن أكتُب عن أمل هارِب من الحياة، يُغَنّي للشمس، يَرسُم طائرًا، ويُلوّن جدارًا بأحلامهِ، ينادي خوفه، يهرُب من حتفِه، يواجِه خوفه، ويُصارِع يومه، باحثًا عن غدٍ لا يُشبِه غَد.. يفتح دفترَه، ويكتُب: حلمي يا وجعًا أعشقه، يا حلما احتضنا ملامحك ولم يتسَنَّ لنا أن نعيش لنحيا معك..
ومن على شواطيء الذكرى تهب نسمات، تهمس للحرف، بأن يجد بالقوافي الغافيات ..ومن خلف أسوار الأهداب، أنشدت الأدمعُ الحنينَ، فوق حزن النايات..
ربما، ثمّة أحلام يُؤلِمُنا التمسّك بها، بقدرِ ما يُؤلِمُنا التخلّي عنها..
ندّعي اللامبالاة ونُوَدّعْها على مرأَى مِن جرحِنا، نَتَسَكّع ما بين القلب والعقل إلى أن يُبعثرُها دمُنا ويُكفّنها موتُنا..
ثمّة ذكريات تُرهقُنا بقَدرِ ما تُحيينا، فلا نقتَرِب منها ولا نبتَعِد، نترُكها تتَأرجَح على حبال صمتِنا، تسكُن ما بين أنفاسنا وظلالنا حتى يُطفئها الوقت ويحتويها النسيان..
وما بينَ تلكَ الأحلام والذكريات، نموت نحن حنيناً.
فالشّوق قاتل لا يرحَم الرّوح…
ربما، عندما تتَحوّل دوافعك اتجاه شيءٍ ما من رغبة إلى واجب، فإنّ شيئًا بداخلك قد انطَفأ، والشّغف الذي كان يَمدّك بالحياة قد أُنهِك…
حين يتحوّل ما تُحِب إلى عبءٍ تَحملُهُ على كاهلك، يُصبِح كل يوم مواجهة مع نفسك، تسأل فيها: هل أستَمِر بِدافِع الالتزام؟
أم أنسَحِب بَحثًا عن ذاتي التي ضاعت في الطريق؟
الأُلفة يا صديقي لا تُصنَع بالإكراه، وما إن تَفقِد الانسجام مع المكان أو الأشخاص.. يُصبِح البقاء استنزافًا، والرحيل خطوة نحوَ التّصالُح مع روحك.. أكتب هاته الكلمات وقد وقفت مليا، عند تلك اللقطة..
أتأمل الملامح، ونظرات العيون..
الضحكات.. وكل الشجون..
لماذا لا نستطيع ان نعيد لحظة؟
ولماذا يغدر بنا العمر، وتغادرنا السنون؟
بالله كيف تنفلت اللحظة، وكيف يتجمد الموقد ويصبح الدفء مسجونا؟
ليتني سنونو نامت في كف أسطورة، أو إطارٌ من أقحوان يضم إلى صدره صورة.. وليت عمري العتيق ينتشلني، كما انتشلت السيارة يوسف، وخبأته زليخة حلماً بين الجفون..
أنا فعلا لستُ ما ترونَهُ مٍن إندِفاعات…
أنا الصمت والتمعّن.. الفكر بعد ألفِ تأمّلٍ وتفكّر… الوقفة الطويلة قبل أي خطوة… اليد التي تتراجع قبل أن تمتد..
أنا المراقب الذي لا يفوته أدق التفاصيل.. الحذر الذي يسبق الجرأة.. الهدوء والتروي… التأمل قبل الفعل، والمراجعة قبل القرار..
أنا العقل الذي يُفكّر ألف مرة قبل أن يتَكلّم.. أنا الباب المغلق الذي يظل محكمًا حتى أتيَقّن..
أنا الحَذر الذي يَزِن كل شيء قبل أن يخطو للأمام..
أنا التي في نِهاية كل يومٍ أقول بأن هذا اليوم هو الأشقّ والأكثر دمويّة؛ حتى يَجيء اليوم التالي؛ صارت الأيامُ تمحو الأيام؛ والألمُ الأَشَد يُداوي الألم الأقلّ وِقعًا..
ما عُدنا ندري أيُّ يومٍ مرَّ علينا كانَ الأكثر أذِيّة، جميع أعضاؤنا تنزِف.. وحواسنا توقفت عن إدراك ما يحدُث معنا..!
تظلني غمامة اللهفة وتمطرني وجلاً حينًا وحيرةً حينًا آخر..
وهناك حيث يرقد حلم ..
يبات ظلي طريحا على قارعة الصدفة..
خلفَ وجوهِنا الهادئة الخالِية من التعابير، تتلاطَمُ عواصِفُ في أعماق قلوبنا، وفي طَيّات أرواحنا تصرخُ أصواتٌ تَبُثُّ شعورًا خانقًا، ومحاولاتٍ مُتَعثّرَة للتّعافي..
كيف نَتَعافَى من أوجاعٍ تأبَى الرحيل؟
أينَ نلجَأ بقلوبنا المُثقلة؟؟
أين نذهَب بمشاعرِنا المليئة بالفقد والحنين؟
وكيفَ يُمكنُنا الهرب من خيباتنا، من قلوبنا، ومن عقولنا، ومن أنفسنا أيضاً؟ كيف السبيل للخَلاص مِنّا؟؟
فجأة، ومِن دون سابِق إنذار، وجَدنا أنفسنا عالقين في دَوّامة من التغيير القاسي..
كأنّنا نَسير على طريق مستقيم، وتمَّ دَفعَنا فجأة إلى هاوية لا قاع لها.. الأمان أصبحَ ترَدّدا، والموَدّة تحوّلَت جفاء، وجدنا أنفسنا غُرَباء في حياة من كنّا يومًا نبضها…
فقدنا ذاك الدفء الذي كنّا نَنعَم بهِ، وتحوّلت اللحظات التي كانت تُشعِرُنا أنّنا كل شيء إلى لحظات جعلتنا نَشُك بِقيمتنا ومكانتنا..
هو شعور يغزونا يا صديقي. أشبَه بِريح عاصفة، يقتلع جذور الطمأنينة،
ويترُكنا وحدَنا نتساءَل:
أين الخطأ؟؟
وما الذنب الذي اقتَرفناه لنُعاقَب هذا العقاب ويتخلّى عنّا كل من تمسّكنا بهِم يوماً؟!
أحتاج وبِشِدّة للاختفاء، أريد أن أنسحِب من هذا العالم الذي أثقلَ روحي..
أتمنى أن أُصبِح ظلاً وأتَوارى خلفَ ضجيج الحياة، لكنني أيضاً في أمَسّ الحاجة لمَن يجدُني وسط هذا التيه الذي أعيشُه..
أحتاج لمَن يرى كُسري خلف صمتي، لمَن يَمدّ يده ليجمع شتاتي، لأحد يجمعني كقطعةٍ من زجاجٍ مكسور،
ويحاول بعناية أن يعيدني إلى صورتي الأولى.. لكنّني صامتة، لا أجرُؤ على البوح، ولا املُك يقينًا أنّ هناك من يستطيع رؤيتي، فأختارُ الاختفاء رغم أنّني في داخلي أتوق بشدة لأن يُعثَر عليّ.
بقلم: هند بومديان