انعكاس الذات في مرايا الهجرة .. قراءة في رواية “الفصل الخامس” لأحلام لقليدة

 بعد روايتها الأولى “راعية الذئاب”، تعود الأديبة أحلام لقليدة إلى غواية السرد بعمل روائي جديد بعنوان “الفصل الخامس”ّ مؤكدة رهانا إبداعيا على تأسيس حضور متميز في سجل الأدب الروائي .

للرواية مداخل قراءة متعددة وأشدها جذبا لاهتمام القارئ هي موضوعة الهجرة التي بصمت الوعي الاجتماعي المغربي بتجربة كان لها تأثير كبير في تشكل جانب كبير من الهوية .

الواقع أن الأعمال الروائية التي تناولت موضوع الهجرة كثيرة بحيث يصعب على أي روائي أن يكتب نصا يرتكز على موضوعة الهجرة دون الانتباه لوجود (ذاكرة نصية) حول ما يمكن أن نصفه بكتابة الذات في مرايا الهجرة، والتي هي كتابة تتقاطع فيها انعكاسات المثاقفة وصراع الهويات المتغايرة .

أفضل ألا أحصر عالم الرواية في المرتكز الدلالي لثيمة الهجرة، لأن رأيي أنها رواية حول (الألم الإنساني) وحول مفارقات الواقع والمصير. رواية حبل السرد فيها مشدود إلى عدة عقد في حبكة متضافرة، تؤلف بيت التخييل السردي والتخييل المشاكل للسيرة الذاتية والسرد المشاكل للمنحى التسجيلي .

بصيغة أخرى إن بطلة الرواية “راوية” ومجمل الشخوص الأخرى (الجدة، الأب، الأم، العم، الزوج موح..) هم شخوص شجرة العائلة، ومن الطبيعي حضور المنحى المتمثل في التخييل الاجتماعي / الأوتوبيوغرافي مصحوبا بزخم إبداعي في تقديم الرواية لمتخيل أنتروبولوجي حول البادية المغربية توفقت الكاتبة في رسم أبعاده الواقعية والرمزية .

حين قلنا إنها رواية حول الألم الإنساني، فذلك لأن حبكة السرد قائمة على جرح الانفصام الذي يطبع حياة المرأة بالانكسار وهي تعيش حياتها كسعي للتحقق والاكتمال. تبدأ تشكلات هذه الحبكة الانفصامية من لحظة موت الأب ذلك الموت الذي سيتجدد مرتين من خلال زواج العم بالأم وحلوله القهري المزعوم مكان الأب. تحضر المقبرة كفضاء مأساوي لتأكيد قسوة الانفصام. تصير موضوعة الموت مركزية وتتسرب ظلالها إلى كل الأحداث التي تأتي في سياق السرد .

زواج البطلة راوية من موح العامل المهاجر هو أيضا موت رمزي وهو أشد ألما لأنه امتداد لاغتصاب الهوية من طرف العم في صورة الزوج موح.. وفي هذا السياق تأتي الهجرة لا خيارا حرا ولا شكل تعرف وحوار واكتشاف بل كفضاء للاضطهاد والاغتصاب المعنوي والرمزي .

وإذن فإن الحبكة المركزية للرواية هي تشريح الوضع اللاإنساني للمرأة في كل المجتمعات، فكل خرائطية السرد تصب في هذا المعنى الذي يزداد تمثلا من خلال حركة فعل مضاد تقوم به البطلة لترميم أعطاب حياتها وإعادة بناء حياتها من جديد وذلك بالرهان على المعرفة المحصنة للوعي ومنح الذات الفردية فضاءها الحميمي للتحقق والانسجام .

هكذا هي رواية “الفصل الخامس” يمكن وصفها بـ (الحياة بين موتين) ونحن نشير هنا إلى بنية التعارض بين حياة البطلة في البادية قبل الزواج وحياتها بعد ذلك في المهجر حيث بعد الانفصال عن موح تبدأ تتشكل أسطورة الميلاد الثاني .

كما قلت لا يجب اختزال قراءة الرواية في محور واحد الذي هو موضوع الهجرة، فالرواية تفتح حيزا مهما لموضوعة الكتابة من خلال سعي البطلة لتصير إعلامية. رمزية هذا الأفق تكمن في كونه يؤشر على أن الكتابة معادل رمزي لميلاد متجدد. ذلك ما نلحظه من خلال التقابل المرآوي بين راوية وشخصية تيراب. كلاهما يتوحدان في تجربة الانكسار وتجربة الحلم بحياة جديدة تتخلق من بوتقة الإبداع ومصائر وأقدار الكتابة .

طبيعة التفكير الأدبي لدى المبدعة أحلام لقليدة سواء في تجربتها الشعرية أو الروائية هي دوما موسومة باختيار المبدأ الجمالي الساعي لتحقيق مبدأ التواصل العفوي والمباشر، لذا تبتعد الرواية عن كل أشكال التجريب وتركيبات الغموض في السرد أو تبني الأشكال والأبنية المنزاحة عن النسق الموضوعي .

لكن تنفث الكاتبة سحر لغتها الشعرية وفتنة مجازات الشعر على الجملة السردية، وهي بهذا تحول الفضاءات السردية في الرواية رغم أجواء الألم مانحة لمتعة في القراءة والتخييل. يظهر هذا أكثر في وصف المناخات المتعلقة بالحياة الغربية الباريسية .

في سياقات أخرى تتبني الروائية لغة سردية جارحة في السخرية (تصوير حفل الزواج وليلة الدخلة والعلاقة الزوجية مع موح).. السخرية هي تعبير عن الرفض والمقاومة لامتهان حياة وجسد وهوية المرأة في مجتمع لا يتواصل مع الجسد إلا باعتباره موضوع تملك أو موضوع اغتصاب .

أعتقد أن هناك أفقا مفتوحا لدى الكاتبة أحلام لقليدة لكي تمنح القارئ أعمالا روائية جديدة تجمع فيها بين تجربة حياتها في المغرب وفي باريس. إنها تجيد الترحل في قنطرات عالمين متغايرين في تكوينهما وقيمهما ورغباتهما و(أحلامهما).

**********************

أ – أحلام لقليدة “راعية الذئاب”. دار النشر سليكي إخوان. 2018. المغرب

ب – أحلام لقليدة “الفصل الخامس” دار النشر سليكي إخوان. 2024. المغرب .

بقلم: محمد علوط

Top