سعت المرأة الشاعرة إلى كتابة ذاتها في سبيل الكشف عن هويتها المغيبة من جهة، وإثبات رؤيتها إزاء ما يحدث في واقعها ومحيطها من تغيرات من جهة أخرى؛ مضيفة إلى القصيدة الحديثة هما إنسانيا يلتحم مع مختلف الهموم الأخرى ليعطي نسيجا جديدا أكثر خصوبة من حيث الدّلالات والمعاني والخواطر والانفعالات، مستندة على قدرتها في رصد تلك التناقضات والتجاذبات القائمة بين ذاتها الأنثوية وبين شرط التواجد الثقافي والاجتماعي والتاريخي في المكان الذي تتشكل فيه هذه العلاقة بين الذات وبين التجربة؛ وافتراقها عن السائد والمألوف، وربما الصدام معه أحيانا .
وبما أنها آمنت بأن الشعر رسالة التعبير والتغيير أولا ، فقد بدأ صوتها يعلو في سماء الإبداع الأدبي، وارتبط هذا الصوت بقصيدة النثر، هذا الجنس المهجن من الشعر الجديد، لأنه أصبح من أكثر الأشكال الفنية تلاؤما واتساقا مع صوت المرأة، للتأسيس لِبنَى فكرية ترفع من مستوى الذّائقة الاجتماعية .
قصيدة النثر بالنسبة للمرأة الشاعرة شكلت نوعا من الخلاص التعبيري عن قضايا المرأة التي تمس خصوصياتها، لأنها انفكاك من الهيمنة الذكورية، وفضاء مفتوح للتمرد على الآفاق الضيقة التي كانت تنحصر فيها كتاباتها المبنية على المفارقات كما أشارت إلى ذلك سوزان برنار: “قصيدة النثر في شكلها وفي مضمونها على اتحاد المتناقضات، نثر وشعر، حرية وصرامة، فوضى مدمّرة، وفن منظّم “.
إن شعر النثر النسوي يجعل من إنتاج القصيدة لحظة إبستيمية، تشترط هيمنة الذّات، فيتسع فضاء البوح الكامن في النفس، تمهيدا لتقديم بنائي للشخصية، والتعريف بتلك الرؤية الأنثوية الحقيقية للعالم دون وصاية من أحد؛ قصيدة النثر النسوية هي كتابة لتاريخ أنطولوجي جديد يعوض الغياب القسري للذات الأنثوية التي كتِبَ عنها نيابة عنها في مراحل زمنية طويلة، تتجرد فيها المرأة الشاعرة من تبعيتها للرّجل، وتنفرد فيها بكيانها وبهويتها، قصيدة تمتلك روحا تعلن عن نفسها، فتكون القاموس الذي يفسر ما بداخلها من تجارب، وما تؤمن به من حريات تعبيرية إنسانية مغايرة في جماليتها وفنيتها النصية، تفرضها المرحلة الرّاهنة، بما فيها من تحولات، وما تقتضيه هذه التحولات من بحث عن وسائل تعبيرية أخرى – القصة والرواية – تطعم بها إبداعها وتغني بها تجربتها، وتخلق نموذجا لا يقف عند القديم ولا يلغيه، بل ينحرف إلى التركيز على ذاتها والخلوص للحظتها الآنية بكل أناها، وقد ساعدها في ذلك صعود تيّار النسوية – الاهتمام بالمنتوج النسوي – الاحتفاء بالتجارب النسوية الجديدة ومجافاة التقليدية – صعود قصيدة النثر في التسعينيات وتصدّرها للشّكل الشعري البارز في الخارطة الشعرية – ظهور أشكال تعبيرية أخرى في الأدب النسوي كالقصة والرواية كما أسلفت، إضافة إلى النقد النسوي الذي رصد كل ما هو أنثوي، بمرجعية نقدية منفتحة على كلّ الإطارات النقدية السابقة، بهدف مراجعة وتغيير الصورة النّمطية الشائعة للمرأة .
من بديهيات النظر العقلي أن العالم يقوم على الاختلاف، أما التكرار فيفضي دائما إلى التشابه والتعادل الكمي والنوعي؛ لذلك كانت النظرية النسوية ذات امتداد فكري اجتماعي عريض، باعتبار المرأة نوعا اجتماعيا فاعلا، له كينونته وهويته وصيرورته الدينامية وخصوصيته الجنسية المتأبية على التشابه، والمجبولة على الاختلاف الذي يمنحها خطابا هو في نفس الوقت سلاحا لتثوير الفكروقلب نظامه، فهي لا ترى نفسها هامشا بل منها يبدأ العد .
بالإضافة إلى أغراض قصيدة النثر النسوية ومواضيعها، حملت هذه الأخيرة نفس الوعي المتمرد على قواعد الكتابة وقوالبها وأشكالها التقليدية الخاضعة للوزن والقافية، فجاءت منسابة حرة طليقة متنصلة من كل محاولة تقييد أو رؤيوية ،بحسب تعبير”إليوت”.. فكان من أهم عتبات النص التي اعتنت بها الوظيفة التعبيرية التي تؤكد على دور المرسِل في طليعة كل الخصائص، لأن الكتابة النسوية تتميز بحضور مرتفع لدور المرسل. تليها عتبة اللغة التي تدور في محور ضمير التأنيث بكل إسقاطاته النصية ما يجعلنا نستنتج أن هناك تطابقا بين المرأة الشاعرة وأبعادها اللغوية .
ومن جماليات قصيدة النثر النسوية: التّجريب، وهو نوع من الوعي الحداثي، يتمرد على قواعد الكتابة المستقرة؛ إذ يسلك أسلوب: الطّي والنشر – الكتم والبوح – الإغراء والصدود – الانعتاق والتجلي – الانبثاق والفيض، في كلمات متغنجة تارة ومتمنعة تارة أخرى، أسلوب يتخلى عن كل التعريفات التي أرساها النقد منذ أزمنته البعيدة ليكتب لنفسه تعريفا جديدا .
لذلك قصيدة النثر النسوية أصبحت تحتاج إلى قارئ يخوض غمار ما بين سطورها، ولا تحتاج لمتلق، لأنها تبعث على التحفيز بنزعتها السردية المفتوحة على كل الآفاق والتأويلات، وتواجد التخييل برحابة غير مسبوقة تتعدى المباشرة والسطحية، مع وعي المرأة الشاعرة بموقعها التي لا تتردد في الإشارة إليه بالاسم أو بالصفات، ساحبة معها كل التّوجهات المستحدثة، من تغليب اليومي على ما هو قديم وغريب، مع حضور الكثير من الصمت الجمالي، الذي يحفز الحواس، ويستنفر المخزون الثقافي لدى القارئ، لتمثل الأفكار الكامنة في لاوعي الشاعرة، والتي تظهر أثناء الكتابة؛ فهي لا تكتب من منطلق موضوع، بل موضوعها هو القصيدة، وفيها تصل بإبداعها إلى أقصى مراحل بناء الصورة ..
بقلم: نهى محمد الخطيب