يناير هو توأمُ الحنين.. الوجه الآخر لرائحة المطر.. الشوق إلى الأماكن الأولى.. شغف القصائد.. لعنةُ التأمل.. لوعة الطيور.. حفيف القلبِ.. ورائحة المطر الأنثوي قبل التكوُّن..
حلم حياتي أن أعودُ بذاكرتي إلى ذاك الزمن، إلى الجبال الأولى والمرتفعات الخضراء التي شكَّلت وعيي بالأشياء والطبيعة، ولوَّنت خيالي بأقواس قزح وبالضباب المستنير، ما زال طعم نباتات تلك الأمكنة تحت لساني، للظلامِ رائحةٌ تشبه رائحة خبز العيد..
أعودُ لفتنة المكان الأَّول.. معافى من مرض الشِعر ولو لبضعة شهور.. في القلبِ حبٌّ.. وعشبٌ يحلمُ.. وندى يتكوَّر مثل فراشات الثلج..
ووراء الغيمةِ المنحنية كامرأة ترفع دلو الماء من بئرِ الزمن شمسٌ حائرة في أواخر الخريفِ.. يا لها من صديقةٍ لا تخون، لا ظلالَ يمحوها النسيان في ذاكرةِ الطبيعةِ..
صباحات مغمَّسة بروائح التبغ والهالِ والقهوة العربية وحكايات طويلة وغير منتهية للبطولة والتضحية والعشق والثأر
لا أفاعي تزغردُ في أساطير هذا المكان.. وفي البالِ خريطةٌ من نوَّار وأغنيةٌ وفي القلبِ سماواتٌ من زهر اللوز المشتعل بنار بيضاء.. مضمَّخا بضلالِ عشق اللحظات..
كان لديَّ ما يكفي من الوقت ليأخذني نشيد الأناشيد إلى بريَّة الحنين وجنَّة المرئيَّات.. كانَ جمال الأشياء فائضاً عن حاجته في ذلك الزمن المغسول بالأحلامِ الضالَّةِ الراكضةِ وغزلِ الجاهليِّين الحسِّي ونثر المهجريِّين ورومانسيتهم،
في بريَّة الحنين تلك قلتُ أوَّل أبياتي الشعريَّة وخطوتُ خطوتي الأولى على طريق محفوفة بالكناية والمجازات وحوريات المعاني وظلال الكلام، أحنُّ لعبير الزعرور ولكلاب الصيدِ الراقصة في سيولِ الوديانِ الصغيرةِ..
أحنُّ لناياتِ الرعاةِ.. لألحانها العذبةِ المنبعثة من فجوة متخيَّلة في سهر أنثوي الأبعاد.. أحنُّ للحُبِّ الأوَّل.. لروائح الحبِّ الأوَّل تحديداً.. لأطيافه الملوَّنة.. لسهامه الخفيَّة.. لغيومهِ السابحةِ في سفوحِ القلبِ.. لوهجهِ الشفَّاف في المساءِ وهو ينسلُّ من قصيدةٍ عابرةٍ لشاعرٍ منسيٍّ أو نشوة مطويَّةٍ في ألف ليلةٍ وليلة،
أحنُّ لحياة الرعاة.. للأشجار الشبيهة بقامات النساء الغجريَّات.. وللدروب التي تمتد من أوَّل القلب حتى آخر المحيطات.. لأعتابِ الجبال ومصاطبها ومغاور المطر الفضيِّ، أحنُّ إلى كلِّ شيء ولكن الوقت ضيِّق كقبلةٍ افتراضيةٍ بين حبيبين..
لا يتسعُّ لقيلولةٍ ما بينَ هديلين ولا لركض محموم خلف حوريات مجنَّحات يعدنَ بافتراش الربوات بالقبل الحرَّى.. ويذبن ويتلاشين كلَّما حاولَ خيالك الوصولَ إلى ممالكهنَّ العالية وكأنما يشبه علاقة غامضة بيناير .
البارحة أضاء الغضب دمي، أصبحتُ قنديلا كبيراً من الفلوريسنت.. أو حبَّارا مائيا يضيء الليل.. كما يضيء الشاعر حديقة الهواجس بالحبر. كلُّ الذين يضيئهم الفلورسين يُغمى عليهم ويتقيأون ما غصَّوا به من ذكريات مرَّة..
في المرةَّ الأخيرة عندما أضاءني هذا السائل الغامض في الصيف لم أتذكَّر جيِّدا أنه أغميَ عليَّ كما البارحة.. فجأة تخيلت نفسي أمشي في غابة من شجر الحور.. متتبعا خطى عصافير مرحة.. تذكرَّتُ أشياء كثيرة.. درج بيت يكسوه العشب.. خلخال امرأة عبرت في حلمي.. سماء طبشورية.. نايات مبعثرة.. دواوين باللهجة الفلسطينية المحكية.. طريقي الصباحي.. قميصي المدرسي الأزرق وصديقة شقراء منذ أيام الطفولة..
كنتُ أسمِّيها سيدَّة الزرقة وأعدها بقصائد لم أكتبها وبمحار كثير.. ما علاقة الفلورسين بالشقرة؟
ربَّما علاقة غامضة.. دمي لا يحبُّ الفلورسين.. لا يطيق طعم هذه المادة البرتقالية الصفراء الوردية.. لا يتحملها.. هل أرمي بكوابيس كافكا الملونة في البحر وأنا أتجوَّلُ على ساحلهِ الصخري؟
منايَ لو أتحلَّق حولَ نارٍ ليليةٍ في صحراءٍ بعيدة بالذات.. ليصل الدفء إلى العظام التي يسكنها الجليد… فقط تأمل عميق يشبه إحساسا غريبا بالحب.. تلاشٍ لذيذ في ألحان الضحية وسجائر هولندية عطرية يفتح غيمها باب الكلام الذي انغلق بشدَّة في هذا الشهر.
ليناير عبقٌ غامض يشبهُ عطر حبق مائي موشوم على خصر امرأة..
هو من أجملِ الأشياءِ التي يصعبُ تفكيكها، أجملُ القصائد هي تلك التي تولدُ في يناير، هناكَ براعمُ غير مرئيَّةٍ في الهواء الطلق، هناك نسيمٌ أنثويٌّ يغسلُ الصباحاتِ والعشيَّاتِ بمرورهِ العذب الأنيق،
يناير أرجوحةُ الشهور، رمانة في القلب.. عاشقٌ تغرَّبَ في صحراء الكناية، امرأةٌ تحلُّ ضفائرها على مرأى خضرةِ الزيتون، لو لم يكن يناير في الأرض لاخترعته خيالات النساء والشعراء
ينعشني المطر كأني حديقة أحلامٍ مهجورة أو حقلٌ محاطٌ بسناسل الغيم، أتحوَّلُ لطيور مهاجرة في قصائد خريفيَّة من فرط حنيني لهديره الأخضر الذي سرعان ما يتحوَّل إلى يد خضراء تتقرَّى تماثيل الفصول المشروخة،
فأنمو كعشبٍ في سفرِ المزامير أو في متاهةِ رؤياي، كما تنمو أرواح القدامى القاطنين على حواف التاريخ، المطر مجازاً هو روح السماء أو دمعتها الصارخةُ في البريَّة، أفتقد لسعة جمالِ وقعهِ ولذة تطوافي القديمِ فيه..
يا لها من تجربة لا تُنسى.. كأن شخصا سريَّا محمولاً على ريشة عنقاء يتسلَّلُ الآن من ذكرياتي البعيدة مرتديا مشمَّعا جلديا أنيقا.. هائما في ظلال السماء الرمادية الراقصة، المثقلة حدَّ الأساطير بأناشيدِ المطر
صوت المطر يأخذني إلى آخر العالمِ وأوَّلِ القصائد، يغسلُ أوجاعَ روحي.. صحراء قلقي، بريَّة زيتون روحي المترامية في فضاء بعيد، ها قد انتشيتَ برائحةِ المطرِ الأوَّل.. كانتشاءِ العصافيرِ الخريفيَّة المسقسقةِ في دوحةِ الغيم..
أو كانتشاءِ ذرات الرمال على ساحلِ الشمس، المطر يأخذني من يدي إلى بساتينِ البهجةِ والنوستالجيا وقصاصات النثر القديمة..
يراقصني كما تفعلُ النساء الهاربات من قوانين القبيلة، وحدودِ الشِعر ومساءات القهوة.
المطر يأخذني إلى إيثاكا الغارقة في الضباب وفي قصائد كفافيس
هبوبُ صوته على ضجرِ المساء يضيئني كشمعةٍ في الليلِ.. هو كلّ ما في الأمر.. هو المتن وباقي الأشياءِ هي الهوامش المعلَّقة على مشاجبِ الغبار.. تغسل الكآبة بصوتها.. ترشد الضائعينَ، الحالمينَ، الشعراءَ بصوتي..
ها هو يأتي على جناحِ نورسٍ أو قبَّرة، ها هو يحطُّ على ركبةِ القصيدةِ.. إنهُ الحقيقة المطلقة، في زمن فائض بالكذب والدجلِ المبالغات
وقبل الفجر بقليل ينسل كالأشباح الضوئية من أصابع رغبتي ويرحل، أقتفي أثر ناياته على الصخر.. أفركُ ذراتِ عطره على العشب، في ظلال شجر الأكاليبتوس الذي تتخللَّه شمس الضحى الصيفيَّة، كلَّما أفكِّرُ بقصيدة تبزغُ شمسُ الضحى الفجرية تلك من وراء الأكاليبتوس في سهل أخضر ما،
أسمِّيهِ فردوسيَ الضائع.. ترابُ ذلك السهل المحاذي لسفوح الكرمل شبيه بكحل نساء غريبات، يرقصن في ليالي وحدتي ويثملن من رشفات مجازي يتكحلن بكحل ناصع معجونٌ بحنَّاء طفولتي وماء الحُبِّ الأوَّل .
هند بومديان