حكايات شهرزاد بين الحقيقة والخيال

في “ألف ليلة وليلة” هل حكت شهرزاد كل شيء؟ أم أن ما خفي كان أعظم… وما يثبت مكر شهرزاد، أنها من طينة مختلفة تتقن الحكي، وتتمتع بخيال واسع يجعل من حكاياتها أكثر عمقا، وأشد دهاء، بحيث أنها استطاعت أن تقوم بعملية تنويم مغناطيسي لشهريار وأن تستأثر بعقله، وتتحكم في عواطفه، بنفس المكر في الحكي، وفي كل مرة وهي تعرض حكاياتها، تكرر دائما قصصا على لسان الطير أو الحيوان، بأن المرأة ليست خائنة كما هو شائع في المخيلة الجماعية للرجال، وأن إجراء مجرد تحقيق بسيط، سيكشف عن معدنها النقي والطاهر.

شهرزاد ليست مجرد حاكية ساذجة تلقي بالكلام على عواهنه، وليست رحالة تنشر حكاياتها للرياح، وليست عابرة سبيل تقول كلمتها ثم تتابع طريقها لا تلوي على شيء.. شهرزاد لا تشعر بأية متعة وهي بصدد سرد حكاياتها لشهربار، لأن المسؤولية الثقيلة الملقاة على عاتقها أثقل بكثير مما يعتقد معه البعض أنه لحظة لذة وانتشاء ووصال.

كم عدد الأيام التي ظلت فيها شهرزاد تحكي حكاياتها بلا توقف أو انقطاع؟. الجواب لا تحمله أي قراءة تود الإحاطة بحقيقة المدة الزمنية التي استغرقها الحكي والوصف والسرد.

التحليل النفسي سعى، منذ فرويد مرورا بأدلر وجاك لاكان، لوضع فروقات فسيولوجية وسوسيولوجية بين غرائز المرأة والرجل، وعزا هذه الفروقات أن الرجل يحكي بلا تحفظ ولا يأخذ الاحتياطات اللازمة، ويظل في آخر المطاف كتابا مفتوحا يقرأ ما بين دفتيه بسهولة، ولا يحتاج إلى مفاتيح لأنه غير محصن على الإطلاق، في حين أن المرأة لا تظهر مشاعرها، مهما وضعت ثقتها في الرجل، فإن أبوابها غير مشرعة، بل تظل موصدة على الدوام، ولا يمكن لأحد أن يخترق جغرافيتها، لأن في كل مساحة فيها تحافظ المرأة فيها على سريتها التي ظلت مغلقة وملتبسة.. ولا يمكن أن تسلم مقاليد أسرارها لأي كان.

وربما تكون صفة التستر عند شهرزاد قناعا يخفي حقيقتها البيولوجية ومشاعرها عن العيون، وخاصة إذا بالغت في استخدامها، وربما يكون هذا هو أحد أسباب غموض المرأة وكونها لغزا. وكرد فعل نفسي لهذا الشعور العميق بالتحتية والتبعية، نجد أن شهرزاد تميل إلى الدهاء والحيلة لتفادي بطش شهريار، وهي تستطيع أن تصل من خلال جمال الأنوثة إلى قهر قوة شهريار، وبذلك تستطيع أن تشعر أنها حققت مرادها وأكثر.

ما حكته شهرزاد لشهريار، لم يكن هو الحقيقة كما نتوهم نحن، ولم  يكن من جنس المطلق، لأن مكر شهرزاد ليس مكتسبا، بل هو جزء من طبيعتها الفطرية، وغريزتها كأنثى تغيرها من سلوكها وحركاتها وإشاراتها بين لحظة وأخرى، كما تغير الأفعى جلدها عبر الفصول.

كم كان عمر شهرزاد حين أرادت عرض خدماتها على شهريار من أجل الشروع في عملية الحكي؟ وكيف لها الإلمام بكل هذه الحكايات في الطول والعرض والعمق، وهي لم تتجاوز العقد الثاني من  عمرها من أجل الشروع في عملية الحكي؟؟ فنساء هرمات وعجائز بلغن من العمر عتيا، واشتعل رأسهن شيبا، ومع ذلك لا تحمل ذاكرتهن غير تجارب وخبرات محدودة في المكان والزمان، وقد لا تثير الاعجاب، أو تلفت الأنظار… فكيف استطاعت شهرزاد، وهي بدون خبرة ولا تجربة، أن تحكي حكايات غريبة وعجيبة، ومليئة بالعجائب لدرجة إبهار شهريار، والتمكن من السيطرة على كل عرق في جسده، لدرجة أنه أصبح يوميا يردد على شهرزاد لازمته المعتادة والمتكررة “ماذا ستحكين هذه الليلة يا شهرزاد؟”..

مهما قرأت شهرزاد من حكايات وقصص وأساطير، فإنها لن تبلغ الليلة الألف، مع ما يقتضيه الحكي من تقنيات لتمريره وتوصيله للغير، وهو ما يؤكد نوع المغامرة وحجم التهور الذي دخلته شهرزاد.

الحكي ميثاق غليظ، وعهد لن تخيب عهوده إذا لم يتم الإخلال بشروطه والحفاظ على قواعده، وما السر في امتلاك شهرزاد ناصية السرد، والقبض على ناصية الحكي، وهي مجرد فتاة غرة، لم تفارق عتبة منزل والديها، ولا تعرف شيئا عن العالم الخارجي؟

يقال إن ألف ليلة وليلة مؤلفها مجهول، ولكن عدد رواة حكاياتها كبير وكثير، فجمعت الحكايات والأساطير والقصص، فنتج عنها ذلك الكم الهائل من الأشعار والأمثال والحكم والأحاجي، وبذلك اكتمل هذا العمل الضخم الذي بلغ درجة كبيرة من الإثارة والتشويق والإمتاع، وحقق جاذبية كبرى في اللغة والإيحاء، ونجحت ألف ليلة وليلة أن تدخل بيوت الأمراء والملوك والوزراء، وأن تقتحم عليهم خلوتهم، وتحول بينهم وبين حياتهم الخاصة، لتصبح جزء من تفكيرهم وتدبيرهم اليومي.. لأنها، وبكل مكر، تخاطب فيهم أمور الدين والدنيا، وتساير أحلامهم، وتحقق رغباتهم الدفينة في امتلاك الثروة والجاه، والحصول على امرأة غانية حسناء، وتذوق الموسيقى على لسان إسحاق الموصلي، أو الجواري والفتيان، وروايات الأصمعي وأشعار أبي نواس، وشطحات المتصوفة وجدبتهم، وشجاعة كهرادوشركان وضوء المكان وأخته نزهة الزمان، ودهاء دليلة المحتالة، ومكر العيارين وأصحاب الملاعب كأحمد الدنف، وعلي الزيبق وشومان وغيرهم…

هل كانت شهرزاد تؤمن بصدق نبوءتها، واعتقادها الراسخ واليقين أنها ستخلص بنات جنسها من القتل؟ هل كانت متأكدة من نجاح فرضية الحكي في انتشال عشرات النساء من حبل المشنقة؟ ووفق أية ضمانات تؤسس لنجاح مسعاها؟ قد تكون الأسئلة ماكرة في تحديد نوع الحكي، وقدرته على إشباع فضول شهريار، ليس من الطبيعي أن نسلم بأن الحكي سيحقق غايته الوحيدة، وهي التحايل على شهريار حتى لا تتم الإبادة الجماعية لمنتجات الخصوبة في المستقبل القريب، ومهما كان حجم التوافق كون المهمة التي أنيطت بشهرزاد قد نجحت نسبيا في إيقاف نزيف القتل، فإن هذا النجاح لم تكن له امتدادات على الحريم عبر تاريخ البشرية، بل إن الأمر ازداد سوء في مستقبل الأيام، وبصيغة أخرى ففصل الخلاف والاختلاف ما بين فرضيات شهرزاد في الفعل ورد الفعل عند شهريار، ليس في حقيقة الأمر سوى تحريف مغرض لرغبات شهريار الحقيقية التي لا تخرج عن دائرة القتل، وأن باقي الحكايات التي سردتها شهرزاد حول الزهد والتصوف والفقه وأصول الفقه والمناظرات والأساطير لا تدخل في دائرة اهتمامه، ولا رغبة له في سماعها وتتبع فصولها، فكيف تم إذن إقحام هذه الحكايات داخل “ألف ليلة وليلة”؟

لماذا نسب الحكي إلى شهرزاد، لأنها ابنة الوزير بالضبط؟ ولم لا ينسب الحكي إلى شابة من بنات الشعب؟ وهل كان من السهل على فتاة فقيرة أن تفتح لها أبواب القصر بنفس السهولة والبساطة التي فتحت بها لشهرزاد؟ من هو الأكثر ارتباطا بالشعب، شهرزاد أم غيرها من فقيرات الشعب؟ أكيد أن الجواب واضح، وإضاءة المواقف لم تعد تحتاج إلى تبرير آخر، ومن منح لشهرزاد التفويض على أن تتوب عن بنات جنسها في الترافع عنها أمام الملك شهريار؟

يبدو أن الأسئلة تتناسل وتتوالد كلما زاد حجم الخرق في فوضى الأولويات التي تسلمت زمامها شهرزاد دون أن تحصل على الموافقة من قريناتها؟

لقد كان مخطط شهرزاد قبل الشروع في بداية الحكي عند الملك شهريار، أن تحضر أختها المسماة “دنيازاد” بعد اتفاق مسبق بينهما، بحجة أنها تريد توديعها قبل قضاء أول ليلة عند الملك، هذا الأخير وافق على إحضار أختها “دنيازاد”، وعند حضورها، قالت لأختها شهرزاد: “أختاه، إذا لم يكن النوم يغالبك، فاروي لنا إحدى رواياتك الممتعة لنمضي الليلة، فأنا أخشى غيابك عني”

وطلبت شهرزاد من الملك شهريار أن يأذن لها برواية قصة، فاستجاب لرغبتها.

إذا كان شهريار مصرا على قتل النساء، فإن المبرر لقتله كان واهيا ولا أساس له من الصحة، لأن شهريار لم يتعرض أصلا للخيانة من طرف زوجته، بل أخوه شهرمان هو من هجرته زوجته بعدما خانته، ولتعاطف الملك شهريار مع أخيه شهرمان قرر أن ينتقم من نساء مملكته عبر قرار متسرع ومتهور وغير منطقي هو الزواج كل يوم من فتاة يوما واحدا بعدها يقتلها.

وإذا كانت شهرزاد تتوفر على حسن نية في الدفاع عن بنات جنسها من النساء، وإنقاذهن من سطوة شهريار وبطشه، فإنها قد سلكت طريقا مريبا، ونهجت سلوكا غير متوقع يتناقض ودفاعها عن بنات وطنها، بحيث أن شهرزاد عرضت عشرات القصص التي تتحدث عن كيد النساء، ومكرهن وغلبتهن للرجل في العديد من المواقف، وهو ما يؤكد بالملموس أن فكرة  شهرزاد عن نبل موقفها وإيمانها بقضية نساء عصرها، ما هي إلا مسرحية مفتعلة ومفبركة لا تمت بصلة إلى ما تدعي شهرزاد أنها تدافع عنه.

والحقيقة أن كتاب “ألف ليلة وليلة” يحتاج إلى مراجعة شاملة في التعامل معه على مستوى التصور العام الذي حكم هذا المؤلف، والتعامل بحذر مع ما جاء فيه من منزلقات منهجية، واختيارات عشوائية أفقدت هذا النص التراثي انسجامه وتناسقه على مستوى السرد والحقائق التي وردت فيه، والتي لا يمكن قبولها بهذه السذاجة، مادام الأمر يتعلق بساردة من علية القوم اسمها شهرزاد، ولم نعرف في تاريخ البشرية أن بنتا من الطبقات الميسورة والمخملية فكرت في إنقاذ شعبها، وربما تمرير هذا النوع من المغالطات، هو إعطاء الشرعية لشهرزاد في الحكي وتمثيل بنات جنسها، مع العلم أن الأدبيات السياسية دائما تؤمن بوجود صراع بين الطبقات الراقية والفئات الشعبية، وهو صراع قديم / جديد لن ينطلي على الدارسين للعلوم السياسية، والمهتمين بتاريخ الصراع الطبقي بين المالكين لوسائل الإنتاج، وبين من لا يملكون أصلا شيئا، ولنا في كتب التاريخ عبرة.

بقلم: خالد عبد اللطيف

Top