اسـتــــعـــادة الــــذات الأخــــــــرى

خريف التفاح للمخرج المغربي محمد مفتكر

تأملات سينمائية

تعتبر السينما من بين أشكال التعبير الفني الأكثر انشغالا بقضايا الإنسان. هذا الإنسان الذي ظل قلقا بشأن كينونته، إنه لا يكف عن تجريب كل الوسائط لترويض الطبيعة ثقافيا، بحثا عن الانتماء الآمن للمشترك الجمعي.
ووسط الصخب البصري والحوارات “الشفافة” التي أصبحت تغمر وسائط التواصل الاجتماعي وتطبيقات التراسل الفوري، تتزايد الحاجة إلى السينما بوصفها فنا يحكي بـ”ذكاء” و”عمق” وبشكل “بسيط” هموم الكائن البشري، بانتقاء سلسلة من المشاهد البصرية المكثفة رمزيا، والحوارات المشبعة بالمعاني والدلالات.
وفي هذا الصدد، اخترنا في جريدة بيان اليوم الوقوف في هذه الزاوية طيلة شهر رمضان عند بعض الأعمال السينمائية، التي اهتدى مخرجوها إلى معالجة مواضيع اجتماعية وسياسية وثقافية، برؤى فنية وتصورات فكرية مختلفة تعكس اهتمامهم بمشاكل الإنسان.
قد يبدو في الظاهر، أن بعض الأفلام تصور تجارب أشخاص أو جماعات تنتمي لبيئات في مناطق جغرافية أخرى بعيدة بآلاف الأميال، إلا أنها رغم ذلك، تنقل ضمنيا انشغال الذات الإنسانية بوجودها كفرد أو بانتمائها إلى الجماعة.
أن تشاهد فيلما سينمائيا، معناه أن تحجز تذكرة لرحلة سفر جميل واستثنائي، يمثل فرصة للتأمل والتفكير، ولإعادة النظر في الكثير من الأشياء التي قد تبدو مع مرور الزمن من البديهيات، لاسيما في عصر يتسم بالإسهال في “الإنتاج”، إنتاج “اللاشيء” في الكثير من الأحيان.
إننا لا ندعي في هذه الزاوية، تقديم قراءات نقدية عميقة أو أكاديمية، بقدر ما نتوخى الوقوف عند بعض الأعمال الفنية التي حظيت بإعجاب النقاد والمتتبعين.

يرتبط “الخريف” بالتغيير والانتقال والتحول، أما “التفاح” فيرمز إلى الإغراء والمعرفة والسقوط بعد الخطيئة، لهذا سيكون اسم “خريف التفاح” دلالة على نهاية فصل وبداية آخر في العمل السينمائي الأخير للمخرج المغربي محمد مفتكر.
“البحث عن الحقيقة للكشف عن اللامصرح به”، هو ما حرك الطفل سليمان (أنس باجودي) في “خريف التفاح” طيلة 115 دقيقة، محاولا بفضوله المعرفي صياغة السردية الحقيقية لأسرته، لدحض القصة التي حاول البعض من محيطه أن يرسخها في ذهنه، بكون والدته ماتت “غرقا في الماء”.
لقد ظل التفاح حاضرا في كل الفضاءات التي ولجتها كاميرا محمد مفتكر (منزل الجد، المدرسة، بيت المعلم)، كما ستكون شجرة التفاح التي ظل يعتني بها سليمان وسط بيت جده “الجنرال” الحسين (محمد التسولي)، مصدرا للطعام ولإعداد الحلويات.
رغم عناية الجدة رقية (الفنانة الراحلة نعيمة المشرقي) واهتمامها الكبير بشؤون سليمان لسد خصاص الأمومة، إلا أنه ظل مع بداية نضجه مصرا على معرفة حقيقة مصير والدته، مشككا في القصة المتداولة، خصوصا أن أحمد (سعد التسولي) كان يرفض أن ينادي عليه بـ”أبي”.
بحسه الطفولي سيستطيع سلميان، جمع المعطيات المتناثرة هنا وهناك، ليلملم جراح الماضي، ماضي توتر العلاقة بين أحمد وعائشة (فاطمة خير)، وانكسار علاقتهما اثر الشك في وجود علاقة مع المعلم، ليعلن عن ميلاد قصة جديدة، تتزامن مع توديع فصل الخريف واستقبال الشتاء.
يخفي العمل السينمائي “خريف التفاح” الكثير من التفاصيل التي لا يمكن الانتباه لها، إلا عبر قراءة الصور البصرية التي التقطتها عدسة كاميرا محمد مفتكر، والتي اعتمدت على اللقطات الواسعة والكبيرة والمتوسطة، في تصوير الفضاءات الشاسعة والشخصيات التي بدت متعبة بفعل التفكك وغياب المسافة فيما بينها، باستثناء اهتمام رقية بشؤون زوجها المقعد “الجنرال” الحسين، وهو ما يجدس العلاقة الحميمية بين الزوجين.
واهتدى محمد مفتكر في “خريف التفاح” إلى توظيف مجموعة من التفاصيل التقنية والفنية التي تتماشى وأسلوبه السينمائي، الذي يركز على التكوينات الرمزية، والإيقاع البطيء، هذا الأخير الذي يسمح بالتأمل العميق في الصور التي يأخذها بإطارات بصرية شاعرية، وهي الصور التي تحيلنا على أعمال مخرجين كبار اشتغلوا على مثل هكذا إيقاع بطيء، لا يحتاج إلى حبكة معقدة أو حوارات طويلة، من قبيل المخرج أندري تاركوفسي وعباس كيروستامي.
ولإنتاج عمل ينتمي إلى جنس الأفلام الروائية التي تبتغي تحقيق “العمق” وتستهدف الجمهور العاشق للسينما، اختار محمد مفتكر أن تدور أحداث “خريف التفاح” بقرية نائية معزولة عن فضاءات جغرافية أخرى، لكنها منفتحة ثقافيا على “الحياة” بتعقيداتها الكبرى، حيث تواجه الشخصيات التشظي، والضياع، والتشتت، وتهرب من فعل الوقوف أمام المرآة لمواجهة الواقع بانكساراته وهزائمه.
ووسط الفوضى التي تكتنف مسار الشخصيات، يكون الفن سلاح المحبطين والمهزومين، يقاومون به الضياع ويسترجعون به الأشياء المسلوبة، وهكذا ستلجأ عائشة إلى ممارسة التشكيل الصباغي ببيت معلم القرية، كفعل تستعيد به بعض أبرز محطات الحياة الفردية والجماعية.
ولأن الأسلوب التشكيلي لعائشة، أسلوب مباشر، ستكون اللوحات الصباغية وسيطا للتواصل بينها وبين سلميان، الذي تلصص على مضمون أعمالها الفنية وعقد المقارنة بين الأشياء الممثلة في اللوحات وما يوجد في محيطه الأسري، وهي لوحات كانت جزءا مساعدا في تشكيل “الحقيقة” التي يبتغيها الطفل سلميان.
وشكل “خريف التفاح” منصة للتواصل بين الأجيال، فسليمان يجسد الطفولة ببراءتها ونقائها ناهيك عن بداية الوعي بالذات استنادا إلى طرح الأسئلة والتفكير في الهوية الشخصية والجماعية.
أما أحمد وعائشة يمثلان مرحلة الشباب، التي يتمتع فيها الإنسان بالحيوية والنشاط الفكري والجسدي، حيث يصوغ المرء تاريخه استنادا إلى طقوس التأمل والإبداع ومحاولة التعايش مع الإكراهات الاجتماعية، كما هو الحال بالنسبة لعائشة، أو اللجوء أحيانا إلى التمرد والصراع والقلق والاندفاع، وهو ما مثله أحمد بتصرفاته وسلوكياته العنيفة التي كان الجميع يرفضها.
ومن جهة أخرى، تنتمي رقية و”الجنرال” الحسين إلى مرحلة الشيخوخة، التي يكون فيها الإنسان أكثر نضجا وحكمة، وقد بذلت الجدة الشيء الكثير لخلق جسور التواصل بين سلميان وأحمد، وملأ كل البياضات في حياة حفيدها، لهذا سيخلف رحيلها فراغا كبيرا في البيت، علما أنها كانت تحمي سليمان من الاعتداءات اللفظية والجسدية، ورغم أن الجد كان مقعدا إلا أنه سيواصل ما بدأته رقية في توفير الحماية لحفيدهما الذي يريد أن يصبح جنديا في المستقبل.
لقد بدت بعض اللقطات والمشاهد في “خريف التفاح” طويلة، بل طويلة جدا، خصوصا أن الكاميرا بقيت محصورة في فضاءات القرية الصغيرة، وليكسر محمد مفتكر رتابتها، لجأ تقنيا إلى بعض الإطارات الفنية لأنها تحمل رموزا يمكن أن تشكل أداة للتأمل في بعض التفاصيل التي لا يمكن فهم دلالتها إلا بعد استغراق وقت طويل.
ويشير هذا المعطى إلى أن محمد مفتكر، أعطى أهمية بالغة للمكون الأيقوني على حساب اللفظي، مقتصرا على أصوات يمكن تحديدها في حوار الشخصيات وتحركاتهم، وجرار البئر، والعربة المجرورة، والسيارة…
واهتمام المخرج بسؤال الماضي، هو اهتمام بالذاكرة والهوية والجذور، من خلال طرح الأسئلة الكبرى منذ بداية تشكل وعي الذات بالحياة، وتعد الطفولة الفترة الأكثر تأثيرا في المسار الشخصي، إنها مرحلة حاسمة في اختيار الاتجاهات، واتخاذ القرارات السليمة في عدة أوقات.
وبدا واضحا، أن مخرج “خريف التفاح” دافع عن وجود المرأة، فهي ليست أداة وظيفية في المنزل أو بيد الرجل، وإنما بعدها كائنا رمزيا لا تستقيم الحياة إلا بحضورها، فسليمان وهو يبحث في رحلته عن “الحقيقة”، إنما يبحث عن “المرأة” التي لم يستوعب فكرة “موتها”، أو “تغييبها”، فـ”خطأ الخيانة”! ثقافيا، لا يعني له شيئا أمام الحاجة البيولوجية، أولا، والثقافية لاحقا.
وحظي “خريف التفاح” بفعل حكايته السردية المكثفة بالرموز البصرية، بإعجاب السينفليين، وهو ما جعله يفوز سنة 2020 بمهرجان الوطني للفيلم بطنجة، بالجائزة الكبرى، وجائزة النقاد، وجائزة نادي السينما، كما حاز على جائزة أفضل ممثلة في مهرجان مالمو للسينما العربية.

محمد مفتكر، مخرج ومؤلف مغربي، ولد سنة 1965 في الدار البيضاء. بدأ مشواره الفني كمساعد مخرج أول في العديد من الأفلام المغربية والأجنبية. فاز فيلمه الروائي الطويل الأول Pégase بالجائزة الكبرى في المهرجان الوطني وجائزة الحصان الذهبي في مهرجان فيسباكو. وفاز فيلمه الروائي الطويل الثاني “جوق العميين” بجائزة الإخراج وجائزة التانيت الذهبي في مهرجان قرطاج. أما فيلمه الثالث “خريف التفاح” فقد فاز بالجائزة الكبرى لمهرجان الوطني للفيلم، وجائزة النقاد، وجائزة نادي السينما وجائزة أفضل ممثلة في مهرجان مالمو للسينما العربية.

محمد مفتكر

خريف التفاح:

إخراج: محمد مفتكر
سنة: 2020
المدة: 115 دقيقة
إنتاج: محمد مفتكر وإيمانويل بريفو
سيناريو: محمد مفتكر
تصوير: رافائيل بوش
ديكور: سمير إيسوم
مونتاج: ليلى دينار
صوت: مهدي الفيلالي
موسيقى: يونس ميكري
تشخيص: نعيمة المشرقي، محمد التسولي، فاطمة خير، سعد التسولي، أنس باجودي، حسن بديدة.

> إعداد: يوسف الخيدر

Top