بين الليل والفجر.. رقصة الزمن العمياء

حين يهبط الليلُ على هذا العالم الساذج، ينشرُ أجنحته السوداء حتى أطراف الأفق، كأنّه قماشٌ ثقيلٌ يُسدلُ على مسرح الحياة، معلنًا بدء الفصل الأكثر غموضًا. يمضي الزمن فوق سكك الليل الطويلة، متثاقلًا كأنه يسحبُ أقدامه في دربٍ لا نهاية له، تُساقُ اللحظات بامتثالٍ خاضع، أشبه بجوقةٍ من العبيد المبرمجين على إيقاعٍ رتيب.
تُثقل الأحلامُ الوسادة، تفيضُ بخيالاتٍ لم تولد بعد، لكنها تتكاثر في العتمة مثل نجومٍ خجولة. في ظلال هذا الليل، تستيقظ الأمنيات التي خبأناها في أدراج النسيان، تلك المستحيلة منها، العنيدة، التي ترفض أن تذوب في رتابة الواقع. نمتطي بساط الحرية، نبحر بلا بوصلةٍ نحو «الأين»، حيث لا قيود ولا خارطة تُرشدنا. هناك، نراقب شبح الصمت وهو يغرز أصابعه الغليظة في ثقوب نايٍ منهك، يسرق آخر أنفاس الموسيقى بشراسةٍ متعطشة، كأنما ينتقم من كل نغمةٍ تسللت إلى هذا العالم المنهك.
نغوصُ في الأثير، نساومُ القدر على تفسير رموزه المبهمة، نحاول إقناع الليل أن يطيل سجوده على سجاد الفضاء، فلا فجرَ يعكرُ صفو أحلامنا ولا شمسَ تُحرق خيالاتنا الهاربة. تأملاتنا تُفلتُ من عقال المنطق، تركضُ حافيةً في حقل الجنون، تعبثُ بالمعاني كما يحلو لها، غير آبهةٍ بزوايا الفكر الحادة التي تحاول احتواءها.
ثم يأتي الفجرُ، متباهياً كسيّدٍ متوّج، ينفثُ دخان القصص المتبخرة، يمحو ببساطةٍ عبث الليل وأحلامه، كما لو أن كل ما كان ليس سوى وهمٍ عابرٍ في لعبة الزمن العمياء.
لكن، أيكون الليلُ وهماً أم حقيقةً متجددة؟
وأيكون الفجرُ خلاصاً أم قيداً جديداً يُصاغ من نورٍ خادع؟
إننا نعيشُ بينهما، كراقصٍ مترنحٍ على حافةِ الوعي، نحلمُ حين يسمحُ الليلُ بذلك، ونستيقظُ فقط لأن الفجرَ يأمرنا.
تمضي الحياةُ في هذا المدِّ والجزرِ بين العتمةِ والضوء، بين الوهمِ والحقيقة، بين القيودِ المطلقةِ والحريةِ المشروطة. كم مرةٍ حاولنا أن نختبئ من الفجر؟
أن نُقايضهُ على لحظةٍ إضافيةٍ من السكينة، لكنه يأتي دائماً، يقتحمُ غرفنا كضيفٍ غير مرغوبٍ فيه، يسحبُ أرواحنا من نومها العميق، ينفضُ عنها بقايا الحلم كأنها غبارُ ليلةٍ فائتة.
لكن، ماذا لو لم يكن الفجرُ سوى استمرارٍ آخرَ للظلام؟ ماذا لو كان الضوءُ مجردَ قناعٍ شفافٍ يضعهُ الليلُ حين يُقرر أن يخدعنا؟ نحن لا نهربُ من الظلامِ حقاً، بل نحملهُ معنا أينما ذهبنا، في أعماق عقولنا، في زوايا أرواحنا التي لم يمسسها الضوءُ يوماً.
وهكذا، يظل الليلُ ملجأنا، والفجرُ قضبانَ سجننا الذهبية. نظنُّ أننا نستيقظُ حين يشرقُ النور، لكن الحقيقة أننا فقط ننتقلُ من حلمٍ إلى آخر، من ظلامٍ مُعلنٍ إلى عتمةٍ متواريةٍ تحت قناعِ النهار. فهل نحنُ مستيقظون حقاً، أم أن كل هذا ليس سوى جزءٍ آخرَ من الحلم؟
نحنُ أسرى دورةٍ لا تنتهي، ندورُ في فلكٍ رسمهُ القدرُ بحبرٍ غير مرئي، نسيرُ بين الليلِ والفجرِ كما يسيرُ الماءُ في مجراه، لا يسألُ عن وجهته، ولا يعترضُ على المصبّ الذي ينتظره. لكن ماذا لو توقفنا؟ ماذا لو تمردنا على عقاربِ الزمن، ورفضنا أن نكون حجارةً في نهرِ الوجود؟
قد يبدو الأمرُ ضربًا من الجنون، لكن أليس الجنونُ هو الحقيقةُ الوحيدة التي لم يُدجّنها المنطقُ بعد؟ أليس هو ذاك الفراغُ المقدّس الذي لم تطأهُ أقدامُ التفسيرِ والتحليل؟
حين نكسرُ الحواجزَ التي تفصلنا عن وعينا العميق، سندركُ أن الليلَ والفجرَ ليسا سوى انعكاسينِ لصراعٍ أبديّ داخلنا – صراعٍ بين رغبتنا في التحررِ وخوفنا من الضياع، بين الحلمِ الذي نريدهُ والواقعِ الذي فُرضَ علينا.
ربما ليس الليلُ أكثرَ من مرآةٍ تعكسُ داخلنا، حيث تتجلى مخاوفُنا، أحلامُنا، وكلّ ما أخفيناهُ عن أعينِ النهار. وربما الفجرُ ليس سوى وهمِ اليقظة، لحظةُ إدراكٍ زائفةٍ تمنحنا شعورًا كاذبًا بالسيطرة، بينما الحقيقةُ تُسجى في ظلال المساء، تتهامسُ مع من يملكُ الجرأةَ ليسمعها.
لكن، أيهما أصدق؟
الليلُ الذي يفضحُ أسرارَنا، أم الفجرُ الذي يجمّلُها؟
وأيهما نحنُ حقًا؟
الكائنُ الحالمُ في العتمة، أم الإنسانُ المستيقظُ تحت سطوة الضوء؟
أم أننا ببساطةٍ، كائناتٌ تولدُ مع كل فجرٍ جديد، ثم تموتُ بهدوءٍ حين يُسدل الليلُ ستاره؟
وإن كنا نولد مع الفجر ونموت مع الليل، فأين تكمن حقيقتنا؟ أفي ذلك الشعاع الأول الذي يشق صدر العتمة كخنجرٍ من وهم؟
أم في تلك الظلمة التي تحتوينا، تصغي لأنين أرواحنا، وتعيد ترتيب شظايانا في صمت؟
ربما لسنا سوى كائناتٍ عالقة بين نقيضين، نبحث عن ذواتنا في مرآة الليل، فنجدها ممزقةً بين ماضٍ رحل ولم يكتمل، ومستقبلٍ لم يأتِ بعد لكنه يفرض وجوده علينا كظلٍّ طويل لا فكاك منه.
وكلما امتدّ الليل، تتعرّى أرواحنا أكثر، نقترب من جوهرنا الخام، ذلك الذي يختبئ تحت طبقاتٍ من الادعاءات اليومية. في العتمة، لا أقنعة ولا تصنّع، فقط الذاتُ في أقصى درجات صدقها، تتأمل شروخها، تناجي نفسها، وتتفاوض مع أحلامها الضائعة. لكن ما إن يأتي الفجر حتى تبدأ لعبة التخفي من جديد، نرسم على ملامحنا ملامحَ أخرى، نرتدي ضوء النهار كدرعٍ زائف، ونمضي متظاهرين بأننا نعرف من نحن، بينما الحقيقة أننا مجرد مسافرين بين ليلٍ وفجر، نتقمّص الأدوار التي يفرضها علينا الزمن.
أليس غريبًا كيف نركض نحو الضوء كأنه خلاص، بينما في أعماقنا نعلم أن العتمة وحدها منحتنا حريتنا للحظة؟
أليس الضوء سجنًا حين يُجبرنا على الرؤية وفق شروطه، بينما في ظلال الليل يمكننا أن نرى بأعين أرواحنا، لا بأبصارنا المتعبة؟
لعلّ الفجر ليس ولادة، بل فراق متكرر بيننا وبين حقيقتنا، ولعلّ الليل ليس موتًا، بل عودةٌ مؤقتةٌ إلى ما نحن عليه حقًا. وبين هذا وذاك، نظلُّ في رقصةٍ أزليةٍ مع الزمن، نبحثُ عن إجابةٍ قد لا تأتي أبدًا، أو ربما كانت هنا منذ البداية، تختبئ بين ضوءٍ خافتٍ وظلٍّ عابر.

بقلم: هند بومديان

Top