في رحاب فكر عزيز بلال -الحلقة 14-

عزيز بلال

التنمية… ما لا تقوله الأرقام!

عندما نتحدث عن التنمية، تتبادر إلى الأذهان مؤشرات اقتصادية باردة: نسب النمو، معدلات الاستثمار، أرقام الإنتاج… لكن هل تختزل هذه الأرقام حقيقة التنمية؟ ولماذا تفشل العديد من الدول، رغم الخطط والاستراتيجيات، في تحقيق إقلاع اقتصادي حقيقي ومستدام؟
في قلب هذا الجدل، يبرز فكر عزيز بلال، الاقتصادي المغربي الذي لم ينظر إلى التنمية كمعادلة حسابية، بل كمشروع مجتمعي تحكمه تفاعلات اجتماعية، ثقافية، وأيديولوجية، لا تقل أهمية عن العوامل الاقتصادية. في كتابه “التنمية والعوامل غير الاقتصادية”، يقدم الأستاذ عزيز بلال طرحا نقديا لواقع التنمية في دول العالم الثالث، كاشفا عن الروابط الخفية بين الاقتصاد والسياسة، بين التراكم الرأسمالي والتبعية، وبين الصناعة والهيمنة التكنولوجية.
تجدر الإشارة إلى أن هذا الكتاب صدر أصلا باللغة الفرنسية، وترجمه للغة العربية الأستاذ نور الدين سعودي، وراجعه الأستاذ محمد شيكر، وقام بالتنسيق الأستاذ أحمد أوبلة.

عزيز بلال وتطور البنية الاقتصادية بالمغرب بعد الاستقلال

نواصل في هذه الحلقة قراءة الفصل الرابع من كتاب التنمية والعوامل غير الاقتصادية لعزيز بلال، حيث يعالج المفكر الاقتصادي مسار البناء الاقتصادي المغربي بعد الاستقلال، مبرزا كيف أن الخيارات التي تبناها المغرب تميزت بطابعها “الرأسمالي”، مع الحفاظ على علاقات وثيقة بالرأسمال الأجنبي.
ويرى بلال أن هذه الاختيارات لم تكن مجرد خيارات تقنية، بل كانت تعبيرا عن موازين قوى اجتماعية وسياسية فرضت نفسها خلال السنوات الأولى للاستقلال.
يرى عزيز بلال أن الفترة التي أعقبت الاستقلال مباشرة (1956-1960) شهدت نقاشا حادا حول التوجه الاقتصادي للمغرب، مشيرا إلى أنه بينما كانت هناك قوى داخل الحركة الوطنية تدافع عن خيار الاستقلال الاقتصادي الحقيقي عبر إصلاحات هيكلية، تمكنت القوى المحافظة من فرض نموذج اقتصادي قائم على الاستمرارية أكثر منه على القطيعة مع البنية الاستعمارية السابقة.
ويشير بلال إلى أن هذه المرحلة تميزت بصعود نخبة إدارية واقتصادية تحالفت مع الرأسمال الأجنبي، مما أدى إلى تبني توجه ليبرالي يدعم استمرار المصالح الاقتصادية للمستعمر السابق، مضيفا أن هذا التوجه قد تعزز مع إقصاء التيارات التقدمية من الحكومة سنة 1960، ثم مع انسحاب الجناح اليساري لحزب الاستقلال سنة 1963.

تشكل الأوليغارشية الاقتصادية المغربية

يؤكد بلال أن النموذج الاقتصادي المغربي بعد الاستقلال لم يسفر عن توزيع عادل للثروة، بل أدى إلى تركيزها في يد مجموعة ضيقة من العائلات، مبرزا أن حوالي 300 عائلة استفادت من سياسة المغربة سنة 1973، حيث سيطرت على قطاعات الفلاحة والصناعة والبنوك، مع استمرار ارتباطها الوثيق بالمصالح الرأسمالية الأجنبية.
ويبرز عزيز بلال أن هذه الأوليغارشية لم تكن مجرد فاعل اقتصادي، بل لعبت دورا سياسيا مهما، حيث عملت على توجيه السياسات العامة لضمان استمرار مصالحها، موضحا أن ذلك انعكس في طبيعة الإصلاحات الاقتصادية التي تم تنفيذها، والتي ظلت بعيدة عن أي محاولة لإعادة هيكلة الاقتصاد بشكل جذري.
ويرى عزيز بلال أن المغرب، خلافا للجزائر التي اختارت تأميم القطاعات الاستراتيجية، تبنى نهجا مرنا تجاه الرأسمال الأجنبي، إذ أنه عند استرجاعه لشركات توزيع الماء والكهرباء والسكك الحديدية سنة 1963، حرص على تقديم تعويضات سخية للمؤسسات الفرنسية، مما عكس رغبته في الحفاظ على علاقات جيدة مع المستثمرين الأجانب.
ويشير بلال إلى أن القوانين الاستثمارية التي صدرت لاحقا منحت امتيازات كبيرة للرأسمال الأجنبي، مثل الإعفاءات الضريبية وحرية تحويل الأرباح، معتبرا أنه مع ذلك، فإن هذه السياسات لم تؤد إلى استثمارات كبرى في القطاعات المنتجة، حيث فضل المستثمرون الأجانب التركيز على الصناعات الاستهلاكية والسياحة، نظرا لعائداتها السريعة وانخفاض مخاطرها.

دور الدولة في تمويل النمو

يبرز بلال أن الدولة لعبت دورا أساسيا في تمويل التنمية، رغم تبنيها رسميا للنهج الليبرالي، مشيرا أنه في الفترة 1968-1972، تحملت الدولة حوالي نصف الاستثمارات المحددة في المخطط التنموي، وارتفعت هذه النسبة إلى أكثر من 70% بين 1973-1977.
ويفسر بلال هذا التناقض بكون الدولة اضطرت إلى تعويض غياب الاستثمارات الخاصة، سواء من قبل الرأسمال المحلي أو الأجنبي، غير أن هذا التدخل ظل محكوما باعتبارات سياسية، حيث كان الهدف الأساسي هو الحفاظ على التوازنات الاجتماعية والاقتصادية، أكثر من كونه مشروعا للتنمية المستدامة.
من جهة أخرى، يشير بلال إلى أن السياسة الزراعية التي تبناها المغرب بعد الاستقلال لم ترق إلى مستوى الإصلاح العميق؛ فرغم أن المخطط الخماسي الأول (1960-1964) نص على مشروع للإصلاح الزراعي، إلا أن هذا المشروع لم ينفذ بالشكل المطلوب.
ويؤكد بلال أن الدولة راهنت بشكل أساسي على تطوير فلاحة رأسمالية حديثة موجهة للتصدير، خاصة نحو السوق الأوروبية، غير أن هذا التوجه واجه صعوبات كبيرة، من بينها السياسات الحمائية التي تبنتها أوروبا، إضافة إلى ضعف القدرة التنافسية للمنتجات المغربية.
كما أدى هذا الخيار وفق المفكر بلال إلى تفاقم العجز في المنتجات الغذائية الأساسية، مما جعل المغرب يعتمد بشكل متزايد على استيراد الحبوب والزيوت والسكر.

الاستقلالية الاقتصادية

يرى عزيز بلال أن النموذج الاقتصادي الذي تبناه المغرب بعد الاستقلال لم ينجح في تحقيق الاستقلالية الاقتصادية، بل أدى إلى تعزيز التبعية للرأسمال الأجنبي. وبينما حاولت الدولة تعويض غياب الاستثمارات الخاصة عبر تدخلها المكثف في الاقتصاد، فإن هذا التدخل لم يكن كافيًا لتحقيق تحول هيكلي.
في الحلقة القادمة، سنواصل تحليل هذا المسار من خلال استعراض أداء الاقتصاد المغربي مع نهاية المخطط الخماسي 1973-1977، حيث سنناقش تذبذب نسب النمو، وتأثير التقلبات الزراعية، ومدى نجاح السياسة الاستثمارية في تحقيق الأهداف المسطرة.

< إعداد: عبد الصمد ادنيدن

Top