ثمن البقاء (حكاية الذين لم ينهاروا)

لم نعد نسأل عن أنفسنا كثيرًا، لكننا لم نعد نهرب منها أيضًا. صار حضورنا في الحياة يشبه ظلاً ممتداً على الرصيف، موجود لكنه بلا ملامح واضحة، بلا صخب، بلا مطالب كثيرة. لم نعد نبحث عن إجابات، فالأسئلة نفسها باتت متعبة، مثقلة بحقائق لا تُرضي ولا تواسي.

لم نعد نحسب الأيام الناقصة، بل أدركنا أن النقص هو القاعدة، وأن الامتلاء لحظة عابرة، خدعة تبيعها الحياة على دفعات قبل أن تستردها مضاعفة. لم نعد نتفحص الوجوه بحثًا عن الراحلين، بل أصبحنا ندرك أن بعض الغياب لا يُملأ، وأن بعض الفقد يظل حيًا كنبض بطيء تحت الجلد، لا يصرخ، لكنه لا يهدأ.

لم ننسَ، لم نتجاوز، لكننا فهمنا أن بعض الجراح لا تُشفى، بل تتعايش معنا كندوبٍ تعلمنا كيف نُخفيها تحت ثيابنا الثقيلة. لم يعد الحزن في الأمر، بل إرهاق عميق، كأننا نحمل أمتعة لم نختر أن نحملها، لكنها التصقت بنا حتى صارت جزءًا من هيئتنا. لم يعد الألم صارخًا، بل هادئًا كرياحٍ باردة في ليلةٍ مهجورة، لا تكسر، لكنها تُنهك.

نحن هنا، لا لأننا اخترنا البقاء، بل لأننا لم نملك رفاهية السقوط. لأن العالم لا يمنحنا وقتًا للانهيار، لأن الأدوار التي كُتبت لنا لم تترك لنا خيار الخروج من المسرح. لم نشكر الحياة على التجارب التي كلفتنا أكثر مما أعطتنا، ولم نقل إننا ممتنون للوجع الذي أعاد تشكيلنا. لم يكن ضرورياً أن نكسر لنفهم، لم يكن لازمًا أن نضيع لنتعلم.

أردنا فقط أن نحيا، لا أن نتحول إلى كائناتٍ مثقلة بالحكمة، لا أن نكون أمثلةً على الصبر والنجاة. أردنا حياةً عادية، حبًا لا ينتهي بالخذلان، علاقاتٍ لا تهترئ بفعل الوقت والمسافات، أحلامًا لا تصبح أعباءً ثقيلة على قلوبنا.

لكننا هنا رغم كل شيء، نمارس الحياة كما لو أنها لم تؤلمنا، نضحك كما لو أن أعماقنا ليست مليئةً بالشروخ، نبدو أقوياء لأن أحدًا لم يترك لنا خيارًا آخر. لقد أصبحنا محترفين في المضي، في التعايش مع اللايقين، في التأقلم مع كل ما لم نحبه يومًا.

ليس لأننا انتصرنا، بل لأننا تعلمنا أن الهزائم لا تعني السقوط، بل البقاء رغم كل شيء.

لكن البقاء ليس انتصارًا دائمًا، بل أحيانًا مجرد صمود مرهق، مجرد اتفاق صامت بيننا وبين الحياة: أن نستمر، ولو بأقل مما كنا عليه. أن نتظاهر بأن كل شيء يسير كما يجب، رغم أن الداخل ممتلئ بالفوضى، بالشعور الذي يشبه الوقوف على حافة هاوية، لا نسقط، لكننا لسنا آمنين تمامًا.

لقد تعلّمنا كيف نبتسم ونحن نحمل في صدورنا تعب السنين، كيف نقول “أنا بخير” بصوت ثابت بينما في الداخل سؤالٌ لا جواب له: متى سنكون حقًا بخير؟ متى ستكفّ الحياة عن مطالبتنا بالمزيد؟ متى سنشعر بأننا لا نحمل على أكتافنا أعباءً ليست لنا؟

لم يعد الأمر يتعلق بالألم أو الفرح، بل بنوعٍ غريب من الوجود، كأننا أصبحنا متفرجين على حياتنا، نراها تمضي دون أن نمسك بها حقًا. أصبحت الأيام تتشابه، والأحداث تتكرر، والوجوه تعبر دون أن تترك أثرًا. كل شيء مؤقت، كل شيء قابل للخذلان، لذلك توقفنا عن التعلق، عن الانتظار، عن بناء الأحلام على أرضٍ رخوة.

كنا نريد فقط حياةً بسيطة، بلا أوجاع غير ضرورية، بلا ندوب زائدة، بلا قصصٍ ناقصة تنتهي دون خاتمة. لكننا أدركنا متأخرين أن الحياة لا تُعطينا ما نريده، بل ما نحتاجه لنستمر. وأن النجاة ليست دائمًا مكافأة، بل أحيانًا عقوبة.

نحن هنا، لأننا لا نعرف طريقًا آخر، لأننا اعتدنا أن نحمل أعباءنا بصمت، لأننا فهمنا أن الحزن، وإن لم يختفِ، يمكنه أن يتخذ شكلاً آخر، أقل حدّة، أقل وضوحًا. يشبه الغبار العالق في الصدر، لا يخنق تمامًا، لكنه يمنعنا من التنفس بحرية.

نحن هنا، لا لأننا أقوياء، بل لأننا لم نملك رفاهية السقوط.

هند بومديان

Top