إصلاح السياسة العقابية في المغرب يجب أن يترافق مع تعزيز آليات التنفيذ على أرض الواقع

أكد محمد بوزلافة، عميد كلية العلوم القانونية والاقتصادية والاجتماعية بجامعة سيدي محمد بن عبد الله بفاس، في موضوع “مداخل إصلاح السياسة العقابية بالمغرب: العقوبات البديلة نموذجًا”، على أن مفهوم العقوبة البديلة، والتي يُعبَّر عنها بالعقوبات البديلة للعقوبات السالبة للحرية، أو العقوبات غير الاحتجازية، أو العقوبات البديلة لعقوبة السجن، هو بمثابة نظام يتيح إحلال عقوبة من نوع معين محل عقوبة سالبة للحرية، سواء تم الإحلال ضمن حكم الإدانة أو بعده، مشيرًا إلى أن هذه العقوبات لا تختلف عن العقوبات الأصلية من حيث كونها عقوبة يفرضها المشرع الجزائي على من ارتكب الجريمة، غير أن وجه الاختلاف يكمن في حيلولتها دون دخول المحكوم عليه إلى السجن.
وأضاف محمد بوزلافة، خلال الندوة التي نظمتها رئاسة النيابة العامة بالمعرض الدولي للكتاب يوم الجمعة الماضي، حول موضوع “العقوبات البديلة: الغايات والرهانات”، أن القانون رقم 43.22 عرّف العقوبات البديلة بكونها العقوبات التي يُحكم بها بديلًا للعقوبات السالبة للحرية في الجنح التي لا تتجاوز العقوبة المحكوم بها خمس سنوات حبسًا نافذًا، مشيرًا إلى أن هذا النوع من العقوبات يُعد الأقدم تاريخيًا، حتى من العقوبات السالبة للحرية، وهو ما تؤكده الأعراف الجنائية التي كانت تؤطر تدبير العنف داخل المجتمع القبلي خاصة.
وشدّد محمد بوزلافة، خلال هذه الندوة التي أدارها عبد الحكيم الحكماوي، رئيس وحدة الدراسات والأبحاث لدى رئاسة النيابة العامة، على أن العقوبات البديلة برزت منذ منتصف القرن التاسع عشر، وترسخت اليوم كخيار أساسي في إصلاح السياسات الجنائية والسعي إلى أنسنتها، مشيرًا إلى عدم جدوى اللجوء إلى العقوبات السالبة للحرية قصيرة المدة في تحقيق الردع وإصلاح وتأهيل الجناة.
وبحسب محمد بوزلافة، فإن أغلب الدول، بمختلف أنظمتها القانونية وثقافاتها، ومع مراعاة خصوصية مجتمعاتها، شرعت في الاعتماد التدريجي للعقوبات البديلة، وتواصل التطوير والتوسع في اعتماد هذا الصنف من العقوبات، ليتحوّل إلى سياسة جنائية قائمة بذاتها، كما هو الحال في جل الدول الأوروبية والأمريكية، وكذا العديد من الدول العربية كالسعودية والإمارات العربية المتحدة والبحرين وتونس.
إلى ذلك، تساءل عميد كلية العلوم القانونية والاقتصادية والاجتماعية بجامعة سيدي محمد بن عبد الله بفاس عن وظيفة العقوبة: هل هي الردع؟ أم هي انتقام؟ أم أنها وسيلة للإصلاح وإعادة الإدماج؟ فالعقوبات البديلة، بحسبه، تهدف إلى الجمع بين الردع وإعادة تأهيل الجاني، وتجنب الفشل الذي عانت منه العديد من السياسات العقابية في الماضي، وهو ما يفرض، في نظره، الحاجة إلى تطوير فلسفة العقاب، بما يتماشى مع متطلبات العصر الحديث.
وأوضح محمد بوزلافة أن إصلاح السياسة العقابية في المغرب لا يمكن أن يقتصر فقط على إقرار قوانين جديدة، بل يجب أن يترافق مع تعزيز آليات التنفيذ على أرض الواقع، مشيرًا في هذا الصدد، إلى أن العقوبة في القرن الواحد والعشرين يجب أن تكون وسيلة تهدف إلى الإصلاح وليس الانتقام، مع ضرورة وضع أهمية تقليص عدد السجناء في عين الاعتبار، بما يتماشى مع التوجهات الدولية، كما تضمنتها اتفاقيات الأمم المتحدة.
وأضاف المتدخل أن مشكلة الاكتظاظ في السجون المغربية وارتفاع أعداد السجناء المحكومين بعقوبات قصيرة المدى قد أظهرت فشل الأنظمة العقابية التقليدية. ولذلك، يُعتبر اعتماد العقوبات البديلة خطوة أساسية نحو تحقيق العدالة والفعالية في النظام العقابي، مشيرًا إلى أن هناك حاجة إلى مراجعة شاملة للمنظومة العقابية، تأخذ بعين الاعتبار التطورات الفلسفية والقانونية، وتضمن توفير العدالة وإعادة الإدماج.

توصيات مرجعية دولية بشأن العقوبات السالبة للحرية

من جانبه، أكد مراد العلمي، رئيس شعبة تتبع تنفيذ السياسة الجنائية وتحليل ظاهرة الجريمة برئاسة النيابة العامة، أن بدائل العقوبات السالبة للحرية تنطلق من توصيات مرجعية دولية، لاسيما القواعد النموذجية للأمم المتحدة بشأن التدابير غير الاحتجازية (قواعد طوكيو). هذه القواعد تؤكد على أهمية التمييز بين التدابير قبل المحاكمة، وأثناءها، وبعدها، بما يتيح تفريد العقوبة وتكييفها مع شخصية الفاعل وظروف الجريمة.
أما على المستوى الوطني، يضيف مراد العلمي، فقد صدرت توصيات مهمة تدعو إلى توسيع دائرة الجرائم القابلة للصلح، وتشجيع العقوبات البديلة كخيار إصلاحي يوازن بين حماية المجتمع وتحقيق العدالة. وتشير هذه التوصيات إلى ضرورة تقليص اللجوء إلى الاعتقال الاحتياطي، لما له من كلفة اجتماعية واقتصادية ونفسية جسيمة.
وأورد مراد العلمي أن المعطيات الإحصائية تُظهر أن منظومة العدالة الجنائية تعاني من ضغط كبير. فخلال سنة 2024، سجلت المحاكم أزيد من مليون ونصف قضية، منها حوالي 1.2 مليون محضر أُحيل على النيابة العامة. هذه الأرقام تعكس ارتفاعًا كبيرًا في معدل التقاضي، وهو ما يساهم مباشرة في ارتفاع عدد المعتقلين، مشيرًا إلى أن التقديرات تشير إلى أن عدد السجناء بالمغرب يظل شبه مستقر، رغم تناقص أوامر الإيداع الصادرة عن النيابة العامة، مما يطرح سؤالًا جوهريًا حول نجاعة المساطر القضائية ومدى مرونتها.
ويرى العلمي أنه عند الحديث عن إشكالية الاكتظاظ، فمن الضروري التمييز بين من يدخل السجن ومن يغادره، ففي بعض الحالات، قد ينخفض عدد أوامر الاعتقال، ومع ذلك يزداد عدد النزلاء، بسبب بطء المساطر أو ضعف آليات الإفراج المشروط أو المقيد، بخلاف بعض الدول الأوروبية التي تعتمد آليات مرنة مثل “السجن المفتوح” أو “الإفراج الليلي”، مشيرًا إلى أن النظام المغربي يفتقر إلى بدائل تتيح للسجين قضاء جزء من العقوبة خارج المؤسسة السجنية، وفق شروط قانونية صارمة.
ويرى مراد العلمي أن تفعيل بدائل العقوبات السالبة للحرية لم يعد ترفًا تشريعيًا، بل ضرورة استراتيجية في ظل الأرقام المقلقة حول الساكنة السجنية. الإصلاح الحقيقي يقتضي إرادة سياسية وتشريعية، لكنه أيضًا يتطلب تغييرًا في الثقافة القضائية، وتنسيقًا فعّالًا على المستوى الترابي. فالعقوبة ليست انتقامًا، بل وسيلة لإعادة الإدماج وتحقيق الأمن المجتمعي.

ضرورة مراجعة فلسفة العقاب

بدوره، أورد مصطفى الفراخي، مستشار بديوان رئاسة النيابة العامة، أن نسبة المعتقلين في المغرب تُثير القلق، إذ يبلغ معدل الاعتقال حوالي 295 معتقلًا لكل 100 ألف نسمة، وهو رقم يفوق بثلاثة أضعاف ما تسجله عدة دول أوروبية، مشيرًا إلى أن هذا الواقع يؤكد على ضرورة مراجعة فلسفة العقاب، باعتماد عقوبات مبتكرة كالعقوبات البديلة، تتيح تقليص عدد المعتقلين دون المساس بمبدأ الردع، مشيرًا إلى أن القانون المغربي حصر العقوبات البديلة في الجرائم التي يُعاقب عليها بأقل من خمس سنوات، وهي تُشكل حوالي 74% من العقوبات الصادرة، ما يجعل من هذا الورش ضرورة وليس ترفًا.
وفي نظر مصطفى الفراخي، فإن التجارب والسياقات الدولية تُظهر أنها تواجه صعوبات هيكلية في تحقيق الأهداف المتوخاة من العقوبة السالبة للحرية، إذ تُسجل معدلات عودة مرتفعة، ولا تحقق الردع العام بالشكل المأمول، بل أحيانًا تؤدي إلى تفاقم الهشاشة والانحراف، مشيرًا إلى أن العقوبات السجنية القصيرة الأمد عاجزة عن تحقيق الإصلاح، علمًا أن ثلثي نزلاء السجون محكومون بعقوبات تقل عن خمس سنوات، وحوالي 37% منهم محكومون بأقل من سنة واحدة، وفي ظل الإكراهات الإدارية والقضائية، قد لا تتجاوز المدة الفعلية لقضاء العقوبة بضعة أشهر بعد صدور الحكم، وهي مدة غير كافية لإحداث تغيير فعلي في سلوك الجاني، كما أن العقوبات القصيرة تُستنفد دون أن تحقق أهدافها، وهو ما يُبرر التفكير في بدائل تُراعي الطابع التربوي والإدماجي للعقوبة.
وأضاف المستشار بديوان رئاسة النيابة العامة، أن السجن بطبيعته كفضاء مغلق، تُقيده اعتبارات أمنية صارمة، ويواجه اكتظاظًا مزمنًا، ما يجعله غير ملائم لتنفيذ برامج فردية للإصلاح والتأهيل، مشيرًا إلى أن الاكتظاظ بلغ مستويات حرجة، ويُشكل تهديدًا حقيقيًا لحقوق المعتقلين، ويعيق المؤسسات السجنية عن أداء دورها الإصلاحي.
وفي السياق ذاته، أورد الفراخي أن 63 في المائة من المعتقلين اعتُقلوا لجرائم ذات طابع اقتصادي أو تتعلق بالقوانين الخاصة، وأن 85 في المائة منهم مستواهم الدراسي أقل من الثانوي الإعدادي، و87 في المائة يزاولون مهنًا بسيطة وغير قارة، فيما 77 في المائة من السجناء شباب تقل أعمارهم عن 40 سنة، مشيرًا إلى أن هذه المؤشرات تكشف هشاشة اجتماعية واضحة قبل السجن، ومشيرًا إلى أنه من الصعب أن تحقق المؤسسة السجنية الردع والإصلاح بدون دعم مؤسساتي وبرامج مندمجة.
وبحسب مصطفى الفراخي، فإن العقوبات البديلة، كخدمة المصلحة العامة أو المراقبة الإلكترونية، تتيح للجاني تحمّل مسؤوليته دون عزله عن المجتمع، وتُساعد في تقويم سلوكه دون المساس بكرامته، كما أنها تُخفف العبء عن المؤسسات السجنية، وتُعزز ثقة المجتمع في عدالة ناجعة وإنسانية.
ولاحظ مصطفى الفراخي أن عدد المستفيدين من آليات مثل الإفراج المقيد بشروط يبقى ضعيفًا جدًا، إذ لم يتجاوز 408 مستفيدين خلال خمس سنوات، ما يطرح عدة تساؤلات حول أسباب هذا القصور: هل هي تشريعية؟ أم متعلقة بالضمانات؟ أم بعدم انخراط كافة المتدخلين في تفعيل هذه الإجراءات؟.
وخلص الفراخي إلى أن العقوبات السالبة للحرية، خصوصًا القصيرة الأمد، تعاني من اختلالات بنيوية، وأن بدائلها تمثل حلًا عقلانيًا، واقعيًا وإنسانيًا، مشيرًا إلى أن نجاح قانون العقوبات البديلة يفرض إحاطته بمقومات تفعيله كما أراد المشرع، وأولها التواصل العمومي لتغيير التصورات الراسخة حول العدالة والسجن، وتحفيز القضاء على تفعيله عبر آليات ملائمة وضمانات كافية، وإشراك المجتمع المدني في تنفيذه ومواكبة المحكومين.

دور النيابة العامة كقوة اقتراحية للعقوبة البديلة

من جانبه، أفرد كريم أيت بلا، وكيل الملك بالمحكمة الابتدائية بالقنيطرة، الحديث عن دور النيابة العامة في تنفيذ العقوبات البديلة، وفق ما هو منصوص عليه في القانون، مؤكدًا على أن متطلبات نجاح دور النيابة العامة كقوة اقتراحية للعقوبة البديلة، يقتضي الجرأة في اقتراح العقوبات البديلة حتى في الجرائم التي دأب العمل القضائي للنيابات العامة على المتابعة فيها في حالة اعتقال، وتفادي الطعن ما أمكن في الأحكام القاضية بالعقوبات البديلة، مع مراعاة مصلحة الضحية وحقوقه عند اقتراح العقوبات البديلة.
كما أكد كريم أيت بلا على ضرورة التعجيل باعتماد النصوص التنظيمية الضرورية لتنفيذ العقوبات البديلة، للاشتغال على تمكين قضاة الأحكام وقضاة النيابة العامة من الآليات الأساسية، مع إشراك جميع الفاعلين لإنجاح العقوبات البديلة (قضاء وقطاعات حكومية وغير حكومية)، بالإضافة إلى اعتماد خطط عمل محلية تراعي الإمكانيات المتاحة لتنفيذ العقوبات البديلة يتم إعدادها وتنزيلها بتعاون بين مختلف المتدخلين.
وأضاف وكيل الملك بالمحكمة الابتدائية بالقنيطرة، أن موضوع العقوبات البديلة يعد من المواضيع الهامة في السياق القانوني، فالأمر يتطلب أسلوبًا مختلفًا في التعامل معه، حيث يُنتظر أن يدخل حيز التطبيق في غشت المقبل، وهو ما يستدعي استكمال التحضيرات اللازمة لتنزيله على أرض الواقع، مشيرًا إلى أن نجاح هذا القانون يعتمد بشكل رئيسي على توفير الإمكانيات اللوجستية الكافية، وإعداد النيابة العامة والقضاة لتنفيذه بشكل فعال.
وطرح كريم أيت بلا إشكالية وصفها بالرئيسية، يمكن أن تُشكل عائقًا أمام نجاح تطبيق العقوبات البديلة، وهي الثقافة المجتمعية التي يتعين، في نظره، أن تكون مستعدة لتقبل هذا النوع من السياسة العقابية، وهو ما يفرض، يضيف المتحدث، وضع إستراتيجية فعّالة للتواصل مع المواطنين وتعريفهم بمقتضيات هذا القانون، حتى لا يكون التطبيق مفاجئًا لهم. فالضغط المجتمعي يلعب دورًا كبيرًا في قرارات النيابة العامة، وقد يؤثر بشكل غير مباشر في تفعيل هذا القانون.
كما وقف وكيل الملك لدى المحكمة الابتدائية بالقنيطرة على بعض الإشكالات الرئيسية، من قبيل ضعف نظام الرقمنة في المحاكم، حيث يظل الاعتماد على المراسلات الورقية، وهو ما قد يؤدي، بحسبه، إلى تأخيرات كبيرة في تنفيذ العقوبات البديلة، مما يتطلب إيجاد حلول تقنية أسرع وأكثر فعالية، مشيرًا إلى أن هذه الصعوبات تتطلب تقييمًا دقيقًا للأدوات والموارد المتاحة، لتفادي أي معوقات قد تؤثر على تطبيق القانون.
وبحسب كريم أيت بلا، فإنه رغم كون النيابة العامة تمتلك بعض الصلاحيات في تفعيل هذا القانون، إلا أن تأثيرها في تنفيذ العقوبات البديلة قد يكون محدودًا إذا لم تتوفر لها الإمكانيات اللوجستية والتقنية الكافية.

محمد حجيوي

Top